كمال الصليبي يبحث عن يسوع



دفعني تحليل "الرأي" الغراء يوم السبت الموافق 6\11\1999، لكتاب كمال صليبي "البحث عن يسوع، قراءة جديدة للأناجيل"، إلى اقتناء الكتاب وقراءته، وان على مضض. فقد رحت "أبحث" في تلك "المحاولة " عن يسوع فلم أجده. رغم أن الكتاب محشو بالاقتباسات العديدة من الكتاب المقدس. إذ أن الجوهر ليس بسعة الحفظ غيبا من المواقع الكتابية، بل في كيفية النظر إليها وتمحيصها وعرضها إلى "النقد الكتابي" الذي يدّعي الكاتب أنّه من أنصاره، ولكن شتان بين الثرى والثريا.
ولعله ليس من باب المصادفة، أن يهلّ الكتاب الجديد على عباد الله، بينما كنا في الأردن نرحب بأحد كبار وعلماء الكتاب المقدس والنقد الكتابي ، ألا وهو الكاردينال مارتيني ، رئيس أساقفة ميلانو في شمال أيطاليا، والذي يعتبر من عمالقة الفكر المسيحي في العصر الحديث، وله مؤلفات تفوق المائتي كتاب، بدون أدنى مبالغة، وترجم بعضها إلى العربية. وقد حظي نيافته بمقابلة جلالة الملك عبدالله، وزيارة بعض المواقع الأثرية والدينية الهامة في بلادنا. أذكره هنا لتزامن زيارته وكتاب" البحث عن يسوع" لكمال صليبي. وسبحان الذي يجمع الشتيتين والنقيضين، فنيافة الكاردينال مارتيني معروف بابحاره بمهارة في الكتاب، وبالتالي تفسيره بأصالة واحتراف. أما "الصليبي" فظهر في الكتاب أنّه يحاول تعلم السباحة في الكتاب، فراح يشرق ويغرب ، بعدما تفاجأ أن البحر ليس كما كان يظن، وإذا لسان حاله يغني وعبد الحليم: "لو أني أعرف أن البحر عميق جدا ما أبحرت".
أما بعد، فبعد 2000 عام تقريباً من نشوء الأنجيل (ولا أقول الأناجيل)، فإن أي قراءة كانت للأنجيل، عليها أن ترتكز إلى التقليد الحي في الكنيسة، وهو كل ما علم آباء الكنيسة وعلماؤها والبابوات في مختلف العصور. وهذا ما يجهله جهلا تاما كتاب "البحث عن يسوع" الذي لا يعتمد إلاّ على ظن واجتهاد وعلم وتصوّر الكاتب ذاته، وهذا فيه تصرّف غير مشروع للنقد الكتابي، وبالتالي ينفى المتعارف عليه في التفسير والشرح المقدس. أضف إلى ذلك، فهل من حاجة فعلية إلى " قراءة جديدة" تفتقر إلى المراجع الأساسية وإلى ذكر أي عالم فعلي للكتاب المقدس. فلو كانت الحقيقة هي ما ينشده "الباحث عن يسوع"، لأتت حقائقه موضوعية تغرف من النبع الأصيل للإنجيل ألا وهو الكنيسة وقد وصفها القديس بولس بأنها " عمود الحق وركنه". فالانجيل الذي ولد في حضن الكنيسة، وهي الأم الأدرى بكيفية تفسيره بما يتناسب والرسالة السماوية السامية التي يحملها يسوع المسيح.
ولتبيان أنني لا أتكلم بالهواء- أحاول عرض بعض الأمور التي بدت لي غريبة حديثة ولا دخل لها بعلم الكتاب المقدس:
1- بداية، يستشف من الكتاب بأنه " أبصر النور" لكي يقسم يسوع إلى يسوعين- يسوع تاريخي أراد أن يستولي على حكم إسرائيل(74) وليس أسم أمه مريم (112). أما التحليلات حول حياة يسوع "هذا" فهي بشرية محضة وجسدية وجنسية( أنظر صفحة 146) حيث يعتبره الكاتب إله خصوبة، الأبدية عنده أن يمنح الرجال قوة وطاقات متجددة. وما ينفر القارئ من هذا التصور الحسي، هو أن ينسبه الكاتب إلى علماء العهد الجديد دون أي ذكر لأي أسم لأحد هؤلاء "العلماء"، فهل عاد الكاتب مثلا إلى الكاردينال مارتيني الذي يتقن كل لغات الكتاب القديمة، من العبرية واليونانية وغيرهما ؟
    أما يسوع الأخر فهو الوجه الإلهي لأبن الله وهو، في نظر الكاتب، من ابتداع بولس الرسول عن طريق رؤيا خاصة به، فيها يُحمّل الكاتب زيارة بولس إلى " البلاد العربية" أكثر مما تحتمل، إذ نال هنالك بعض "التعليمات والمعلومات" حول هذه البدعة الجديدة. وفي الوقت الذي ليس من تناقض باطن، بين ما يطرحه الأنجيل وما يقدمه بولس الرسول في رسائله، وهو الذي وصف نفسه بأنه "سفير المسيح" و "أصغر الرسل"، يصرّ الكاتب، وفي أكثر من موقع، على اعتبار بولس مناقضا لأنجيل المسيح، وبارعا في ادخال التعديلات الجذرية على حياة يسوع، ومختلقا للعديد من الحقائق، التي هي ، بنظر الكاتب، بعيدة، كل البعد، عن فحوى الانجيل.
2) تلاميذ يسوع، بنظر الكاتب، لا تسود بينهم الألفة والمحبة، متناسياً قول أعمال الرسل: "انظروا كيف يحبون بعضهم بعضاً"، وهذا ما كان يميزهم عن غيرهم من خلق الله، عند نشوء الكنيسة. فهم، بالنسبة له، متباغضون(93) يلجأون إلى الرشاوى فيما بينهم(103) والتملق لدى الحكام (84) متناحرون على من سيخلف المعلم على عرش أورشليم (164). أما سلطة بطرس في أن يكون قائدا للرسل، فان الكاتب ينفي كونه قد دعي إلى رتبة الخدمة هذه، باختيار حر وصريح من المعلم، التلاميذ فينكر الكاتب أنه دُعي باختيار حرمة المعلم. ولم يصل بطرس، بنظر الصليبي إلى سدة البابوية إلا بعناده وإلحاحه على المعلم من أجل أن "يرفعه إلى رتبة بابا" (77).
    3-في الكتاب تشكيك وطعن في العقائد المسيحية الثابتة والأساسية. فمثلا، يعتبر الكاتب عقيدة "الثالوث الأقدس" من نتاج العقل البشري، ويفسرها مدعياً: "تصوري لبدايات العقيدة المسيحية من الناحية التاريخية" (125) وهو تصور خاص به ويعتمد على الاجتهاد الشخصي الغير مبني على الصخر، ولا يُعنى بالموضوعية العلمية أو التاريخية. ومن العقائد الأخرى التي يمسها الكاتب، "القربان الأقدس" الذي ينسبه كذلك إلى تأليف بولس(165)، وأيضا عقيدة" أم الله" لمريم أم يسوع، وبتوليتها فيقول أن لها أبناء وبنات آخرين غير يسوع، معتمداً على كلمة "أخوة" المذكورة في مواقع شتى من الكتاب، وكلنا يعلم أنها تعني في التراث القديم واللغات القديمة أبناء العمومة أو الخؤولة وما غيرهما من درجات القرابة. أيضا وأيضا، فان الكاتب لا يتوانى عن المس بشخصية يسوع نفسه وحياته الخاصة، فلا يستبعد أن يكون له عشيقة هي مريم المجدلية (76). ولا ينفي أن يكون قد تزوج (62 و77). مبطلاً بذلك تمثلا جرت عليها ألوف مؤلفة من الكهنة والرهبان على مدار ألفي عام، إذ وجدوا في "عفة" معلمهم مثالاً رائعاً يتمثلون به، ومصباحاً ينير دربهم الطويل في أحلك الليالي. فساروا متعففين على نهج معلمهم. فكانوا، وان ساروا عكس تيار العالم، خير دليل على سمو الأخلاق والتعفف الذي لم يستطع الناس أن يفهموه أو يسبروا غوره.
4- في الكتاب بعض تحليلات غريبة وغير منطقية إطلاقاً، أذكر منها أن يوحنا- كاتب الأنجيل الرابع- قد ذكر أسم مريم وهي أم شمعون بن كلوبا ( وليست أم يسوع)، إذ كان شمعون، أثناء تدوين يوحنا لانجيله، رئيساً للكنيسة في أورشليم، فحاول يوحنا، بذكر اسم مريم ام "الرئيس" استرضاءه والتقرب اليه. والأمر الغريب الثاني الذي أراد ذكره فهو لعازر، شقيق مريم ومرتا، الذي أحياه يسوع بعد أربعة أيام من موته. فلأنّ الانجيل لا يشير أن لعازر قد "نبس ببنت شفة" أو نطق بكلمة واحدة، فإن الكاتب يذهب إلى القول والنفي أن يكون لعازر "مخلوقا بشريا"، بل هو ، في نظره، صنم لإله كانت الرئيسة ( وهذا معنى مارتا)، والأخوات الناسكات، يقمن بخدمته والتعبد له في "بيت النساك" الذي كان الدير الخاص به (153). ومن جديد، أفكر بالكاردينال مارتيني، كأنموذج رفيع المستوى لعلماء الكتاب، وأقول ماذا لو درى الكاردينال بهذه المعلومة وغيرها من ألف معلومة ومعلومة جديدة في هذا الكتاب؟ أظنه سيذهب حالا إلى قداسة البابا، ليقدم أوراق استقالته، تاركا أمور الكتاب المقدس لعلماء "جدد"، ينظرون ويحللون على هواهم وظنهم وحقائقهم الذاتية وأحكامهم المتسرعة المسبقة.
    وما عساني أقول في نهاية من رحلتي الشاقة في هذا الكتاب؟
أما العنوان، فلافت للنظر، لأن "البحث عن يسوع"، هو عملية وجدانية في قلب المؤمن، ولن ينال أي باحث حق "قسطا من الراحة" طول حياته. فالبحث عن يسوع، وهذا ما تطلبه الكنيسة من أبنائها، وهو ما يؤرق المسيحي في عالم اليوم: كيف أصغي لصوت المعلم، في عالم بات يخنق الروح، ويتغنى بالمجد الباطل، ولا شغل له سوى التشاغل بما ليس له وبما هو ثانوي. لكن من اسر على درب "البحث عن يسوع" من منظار أرضي وبشري بحت، مكتفيا بذلك دون الاستعانة بعين اليمان التي تبصر أن "وراء الأكمة ما وراءها"، فانه لن ينال سوى تعب البدن والروح، وهذا ما لا أتمناه لكمال الصليبي، أو لأي صديق آخر.
أما أسلوب البحث الذي عني به الأستاذ الكاتب، فلا أظنه سوى مناورات برية- وغير جوية- حول الأناجيل وتفتقر إلى الصحة التاريخية والموضوعية وتمس شعور- لا يسوع نفسه- بل أتباعه. أما توقيت الكتاب، فليس مناسباً، إذ يكثر الحديث حديثاً عن الحوار ما بين الأديان، وعن الحوار داخل الكنيسة ذاتها ، بكافة عائلاتها (ولا أقول طوائفها)، وذلك بقصد الوصول الى الوحدة الأصيلة للكنيسة، وهي التي تبنى على المحبة والحقيقة في آن واحد. وأنني أظن الكاتب مشاركاً في بعض المؤتمرات واللقاءات في الحوار بين الأديان. ولكن أسئلة تطفو بذاتها على السطح هنا، ومنها: هل يخدم مشروع هذا الكتاب أيا من فرعي الحوار الداخلي والخارجي للكنيسة؟ هل يخدم التوجه نحو الأخوة والتفاهم والحوار؟ ألاّ يدري الكاتب بأن حوار العقائد والمعلومات قد ولّى إلى ما غير رجعة، ليحل مكانه حوار الحياة وشهادة الواقع اليومي المعاش؟

 


 

يوم السباسِب



… "وجميع الأولاد الصغار، في البلد، حتى الذين لا يقوون على السير لصغر سنهم فيحملهم والدوهم على أكتافهم، جميعهم يمتشقون أغصاناً هؤلاء من النخيل وأولئك من الزيتون، ويواكبون هكذا الأسقف على نحو ما واكب الشعب المسيحَ من بيت فاجي الى اورشليم في ذلك النهار.
فمن أعلى الجبل إلى المدينة، ومن هناك، عبر المدينة، إلى كنيسة القيامة، يسير الجميع على الأقدام، حتى السيدات والأعيان، ويواكبون الأسقف مردّدين اللازمة، أو الرّدة. وهكذا يسيرون الهوينا، الهوينا، لئلا يكلّ الشعب، فلا يبلغون كنيسة القيامة إلاّ وقد مال النهار ".
جاء هذا الوصف بقلم حاجة اسبانية تُدعى ايجيريا، ضمن مذكراتها المدونة اثر رحلة حج واسعة قامت بها عام 381 الى الديار المقدسة. سرّني، بلا شك، هذا الوصف الغربي لعيد الشعانين الذي نحتفل بذكراه الدينية اليوم. لكنّ ثمة وصف آخر رأيته أقرب الى القلب والوجدان، أذكره هنا لما فيه من سحر البلاغة العربية التي أفتخر بها راضيا، حاملا معها كل هموم الشرق وآماله. انه الوصف الذي جاء على لسان الشاعر العربي النابغة الذبياني:

رقاق النعال، طِيب حُجزاتهم،         يحيون بالريحان، يوم السباسب

وما يوم السباسب سوى يوم الشعانين الذي يحيي فيه المسيحيون دخول المسيح معلمهم الى أورشليم دخول الظافرين، مقتحما المدينة المقدسة لا بسيوف وأسنة ورماح حديدية وانما بصليب خشبي وبقوة تواضع وسعة حِلم وكلام مسبوق بالأفعال الخيّرة.
    والنابغة الذبياني اذ يتغنى بهذا الحدث وبأصحابه، فانه لِطيب المعشر الذي لاقاه باتصاله الدائم مع قبائل الغساسنة ولِما شاهده فيهم من خصال جيدة ومناقب حميدة. وهذا ما دعاه الى وصفهم برقاق النعال نظرا الى حياة اليسر التي أعفتهم من السير حفاة على أقدامهم. وللظل الخفيف الذي يتركونه أينما حلّوا. وأنهم "طيب حجزاتهم" والحجزة معقد السروايل والازار ويريد الشاعر الكبير أنهم أعفاء عن الفجور. ولربما أنهم متبعون نظام العفة والتبتل الذي ما زال يقبل على اتباعه العديد من شباب وشابات اليوم.
    وعودة إلى العيد في أصله والاحتفالات الحالية بدخول المعلم المظفر، حيث صارت أفواج "من يحيون بالريحان" مقتصرة على زرافات السائحين والحجاج القادمين من كل أصقاع الأرض، والذين يؤمون قدسنا التي إليها عيوننا ترحل كل يومٍ. واذا كانت عينا المعلم قد دمعت على المدينة لعشرين قرنا خلت لأنها " قاتلة الأنبياء وراجمة المرسلين إليها"، فانا عيوننا اليوم دامعة بحرقة وحسرة لأننا لا نرى أبناءها الأصليين من بين المشاركين في مسيرة الشعانين، ولا تمكنهم ظروف الاحتلال القائم بأن يكونوا على رأس الملتفين حول رئاساتهم الدينية في شوارع المدينة العتيقة وكنائسها العريقة. وان وجدوا أنفسهم يصرخون ملء حناجرهم بذات الصراخ، ولو من بعيد قائلين: "هوشعنا" أي "خلصنا يا رب" ! خلصنا من القلق الذي يملأ صدور شيبنا وشبابنا ! خلصنا من كل ما يفرقنا أو يشتت جمعنا !
ازاء هذا الوضع القائم، نجد في رسالة الفصح هذا العام للبطريرك اللاتيني ميشيل صباح ذكرٌ لبعض الأمور المقلقة، في تلك الأرض الطهور والمباركة، لدى كل أبناء ابراهيم:
قلق الانتخابات القادمة وهل ستأتينا بقادة يتحلون بالجرأة الكافية "لضمان كرامة متساوية للجميع". إلى ذلك، فإن تناقص عدد المسيحيين في القدس يشكل مصدر قلق شديد، فهو ليس بسبب هجرة عادية، بل هي هجرة قسرية مفروضة على الناس بقانون غير عادل يأمر بسحب هويات الفلسطينيين من أبناء المدينة المقدسة.
    ويضيف غبطته سبباً آخر للقلق وهو الوضع في الناصرة بين المسيحيين والمسلمين فالناصرة من أحد أهم المدن المقدسة، ومن أهم مراكز الاحتفالات باليوبيل الكبير لعام 2000، وخطورة الوضع ناجمة عن الحملات الانتخابية الجارية في هذه الأيام والتي تغذي هذا التوتر في المدينة.
هذا هو القلق الذي يقض مضاجع "رقاق النعال" أسوة بأبناء جلدتهم العرب. لكن وسط العتمة قد بدأ بصيص أمل يجد له مكانا، وذلك في الإعلان عن الحج المقدس الذي سيقوم به قداسة البابا إلى بيت لحم والناصرة والقدس، رغم أن أمر الزيارة ما زال على حد تعبير البطريرك" أملاً نغذيه في نفوسنا". ولم يتخذ فيه الفاتيكان قراراً حاسماً بعد.
نهاية، يوم السباسب أو الشعانين إحياء لحدث زيارة تاريخية هامة دخل فيها المسيح المعلم المدينة المقدسة دخول الظافرين دونما رماح أو سيوف. فيه تتوجه الأنظار صوب مدينة السلام-القدس، لعلّ السلام أن يدخل مع الداخلين هذا العام-وفي الأعوام المقبلة.




… وإنْ على كرسيّ متحرّك



مع نهاية العام 2000، احتفل قداسة البابا بقداس يوبيل خاص مع الأشخاص المعاقين، في كنيسة القدّيس بولس خارج أسوار روما. وفي بداية الاحتفال، تقدّم أحد الأشخاص المقعدين، وهو شاب في مقتبل العمر، على كرسيه المتحرّك، وأدلى بكلمة ترحيب بقداسة البابا. أمعنتُ النظر في هذا الشاب عبر الشاشة الصغيرة، فرحتُ أتخيّله ليلةً قبل الاحتفال، وكيف كانت أمّه تشجّعه أن يقرأ الكلمة بثقةٍ عاليةٍ في النفس، وبلا خوف:
    أبني، إنّ قلبي لتتسارع نبضاته فرحاً وفخراً بك، فغداً ستنظر ملايين الأعين إليك، عبر فضائيّات العالم. وسيصغي الناس إلى صوتك، ليكتشفوا فيه جمالاً رائعاً كان متسترا خلف الشفقة عليك والحسرة على مصيرك. وسيرون في وجهك جمالاً خفيّاً ما استطاعت أحكامهم المسبقة عنك أن تسمح لهم برؤيتك جميلا.
    مذ حملتك صغيراً ودلّلتك على الورك، كان الجيران يتباهون بصحّة صغارهم، وهذا حقّهم. وكان حقي أنا أن أحبّك وأن أرى في ابتسامتك قطعة من جمال الجنّة والسماء. ونما حبّي لك. وما أخفيت فخري بك يوماً بعد يوم، وها أنت غداً ستضع عليّ - يا ولدي - معطفاً جديداً من الفخر، سأتباهى به ما حييت.
    وطد شجاعتك يا بني من هذا المساء، حتى إذا وقفتَ وقفتك المنتظرة صباح الغدّ، طلّقت الخوف من نفسك ووقفت وقفة الخطباء اللامعين.
-     (هنا يتكلّم الابن، بتردد واضح) أمّاه شكراً لكِ، وأنا لم ولن أشعر أنّ شعورك نحوي عكس ذلك. ولكن، أخاف ألاّ أكون مقبولاً بين الناس.
-    أوه يا حبيبي، فأن تكون حسناً، لا يقاس بقبول الناس لك. أنظر كيف يتهافت بني آدم على كلّ غالٍ ونفيس، وما هو دائماً بقيّمٍ ولا بمستحق أن يجروا إليه. أمّا أنت، فتكفيك محبّتي، ويكفيك قبولك أنت لنفسك مفتاحاً لنجاحك على دروب الحياة. وانّك يا بني، تماما ككل أبناء آدم، لن تعيش أكثر من حياةٍ واحدة. وإذا أنت رفضتها، بما فيها من جروحات وصلبان، تعدّاك قطارها، واندثرت في حضيضها. ولذا، ترفض نفسك، وتتمرّد على مصيرك، ولا ينظر إليك أحد، أو هكذا تظنّ، بعين الرضى والقبول.
والحسرة يا بنيّ ليست عليك في مرضك، مهما كان قاسيا ومملا، بل الحسرة هي على بشر اليوم وقد باتوا يتقدّمون بكلّ شيء من تقنية يعلو مستواها يوماً على يوم ومن سرعة اقتناء- أو صيد- المعلومات. لكنّهم مع الأسف، ما استطاعوا أن يتقدّموا بالمحبّة والعدالة. ألا ترى جرحهم أعمق من جرحك، يا ولدي، وأكثر منه إيلاما ؟؟!
-    أمّاه ، سأظهر غدا على شاشات التلفاز العالمية، وقد تعوّد الناس أن يروا في شاشاتهم ما كان جذابا ومسرة للعين. فهل سأكون ضيفا معززا ومكرّما عليهم في بيوتهم؟ إني أشك في ذلك !
-    يا حسرتي على الاعلام ووسائل الترفيه التي يبثها عالم اليوم. غدا ستكون أنت يا بنيّ نجم الشاشة في كلّ بيت. أجل، وستكون زين ما يشاهدون في هذه الوسائل، وقد صارت في كثير من الأحايين سماً قاتلاً تمجّه آلات صمّاء بكماء، يحرّكها بشر خرس وعمي وصمّ عن حاجات الإنسان الحقيقية. فلتكن أنت يا ولدي في احتفالك وأخوتك في الجرح والمعاناة، غدا،ً خيرَ ما ينظر الناس إليه، فيذكّرهم بواجب الاستخدام السليم لوسائل الإعلام والعناية الحقيقيّة بأجسادهم-وهي هيكل تقدّس بنفخة الله فيه.
- أمّاه، حسنا، ولكن، ماذا عن قداسة البابا، أتُراه سيسرُّ بالإصغاء إليّ؟
-    أنت تعلم يا ولدي كم يحبّك هذا الانسان، كما يحب جميع الناس، وبخاصة أولئك الذين يحملون صليباً أثقل من صليب غيرهم. فكم وكم يدافع عن حقّ الإنسان- كلّ إنسان، في كلّ الظروف والأمكنة والأوقات، من أجل عيشة هانئة مطمئنة وكرامة مصانة. سيكون الأب الأقدس مسروراً بالاصغاء إليك تخطب في الناس. فالناس ملّت كثرة الخطباء الذين يركزون على قوّة البلاغة متجاهلين قوّة المثال والسيرة الحسنة. وما عاد البشر يستسيغون إصغاء إلى ذوي الوجهين، ممّن هوايتهم تسلّق سلّم الكلمات ليجدوا لهم مواقع في ذوي الجاهة والوجاهة. فكن يا ولدي أنت سيّد الخطباء وألمع الواعظين. فليس لديك من أملٍ، والحمد لله- أن تكون من ذوي الأقنعة ومتقلّبي المواقف على أوجه عديدة.
لا تخف يا بنيّ فانّ وقفتك غدا أمام قداسة البابا، الذي يتفهم جرحك وألمك، والذي سينظر إليك بعينين ما زالتا تتقدان وتنبئان بعصر جديد، رغم هزال الجسم، ورغم مراهنة الناس أنّه ما عاد صالحا لمواصلة الدرب. من قداسته خذ العبرة، وسر على كرسيك المتحرك وسط الناس، مرفوع الرأس ، وزد أمكَ فخراً وسروراً. ودعني أنظر في سيماء وجهك غداً، لأرى كيف يكون التحدّي والتصميم والمثابرة. بشّر يا بني، بشرّ بالإنسان الجديد، وبفجر سلام جديد في الكون، فالسلام لا يكون إلاّ بدعوة القلوب على التوافق والألفة والمحبّة، وهذا ما لا يستطيع سياسيّو اليوم ودبلوماسيّوه أن يدعوا إليه. أمّا أنت فاسبقهم إلى ذلك، وان على كرسيك المتحرك.

الأب رفعت بدر

HOME




 

 

1