محمد علي مقلد

 

المطلوب من <<حزب الله>>... ومن الآخرين

 
 
2005/04/04
لم يكن القتلة يعرفون أن وعياً جديداً تشكل لدى اللبنانيين الذين شعروا، للمرة الأولى، بأنهم شعب واحد مصمم على النهوض بالوطن جديداً من بين الأنقاض، وأن عام 2005 هو موعد اللبنانيين الحقيقي مع نهاية الحرب الأهلية.
التظاهرات المتقابلة عام 75 كانت تهيئ للحرب، فوضعت جزءاً من المسيحيين مقابل سائر اللبنانيين وأقيمت المتاريس بين شرقية وغربية. أما تظاهرات اليوم، على الجانبين، مع خطبائها وأعلامها الموحدة، فقد تباهت بالتنوع الطائفي، مع سؤال رفع على الأعلام الوطنية حول موقع الشيعة من الاستقلال الجديد والوحدة الوطنية المبتغاة.
لبنان الذي بدأ تدميره من قلب العاصمة، خرج من أمكنة الدمار ذاتها. استند إلى رمزية دور الشهيد الحريري في إعادة إعمارها وإلى رمزية اغتياله، وإلى رمزية الحشود في الساحتين الجارتين.
صحيح أن الحشود تقابلت، لكنها رفعت شعارات مشتركة أو متقاربة، لا يفرق بينها إلا الموقف من الدور السوري: الوفاء لسوريا أو الوداع لسوريا. فرح بخروجها لدى فريق وهلع منه لدى الآخر.
في كل الحالات بات على اللبنانيين أن يرسموا صورة لبنان الجديد ما بعد الانسحاب السوري. وعليه فإن قرارات جريئة لا بد أن تتخذ من قبل كل المعنيين بالوجود السوري أو بغيابه.
1 على الشخصيات التي نبتت من دون جذور، ولم يكن لها لتظهر على ساحة العمل العام لولا ارتباطها بأجهزة المخابرات السورية، أن تقرر الانسحاب من العمل العام والانكفاء إلى أعمالها الخاصة.
2 على الأحزاب التابعة لأجهزة المخابرات السورية، والأحزاب الصغرى والتجمعات التي تشكلت تحت خيمة الأجهزة الأمنية أو برعايتها أن تعلن عن حل نفسها لتتحول، إن شاءت، إلى جمعيات خيرية وتنضم إلى مؤسسات المجتمع المدني العاملة في حقول الصحة والبيئة والثقافة والعمل الإنساني. وإذا لم تكن قادرة على القيام بمثل هذا التحول فعليها أن تمنح نفسها إجازة، لتفسح في المجال أمام اللبنانيين في بناء دولة القانون بعيداً عن سطوة الأجهزة الأمنية وسياسات القهر الذي مارسته باسم الأجهزة ضد الشعب اللبناني، وضد الحرية وضد الدولة والسيادة.
3 على الحزب الاشتراكي أن يوسع الدائرة المذهبية التي انطوى عليها، وأن يستحضر روح الشهيد كمال جنبلاط وبرنامجه وحضوره في كل الطوائف والمناطق فيهيئ الظروف لكي ينقل رئيسه من موقع زعامة المعارضة إلى موقع الزعامة الوطنية، ويستعيد دوره كقوة تقدمية لا كقوة مذهبية.
4 على بعض المعارضة أن يخرج نهائياً من أوهام المراهنة على الخارج، أياً كان هذا الخارج، فيقتنع بأن السيادة لا تتحقق إلا بالوحدة الوطنية وأن يقدم نقداً صريحاً لسلوكه ويعتذر من الشعب اللبناني على استدراجه، على مدار الحرب الأهلية، القوى الخارجية والاستعانة بها ضد اللبنانيين.
5 على المعارضة كلها أن تخرج من الهم الانتخابي إلى رحاب النهوض بالوطن وإعادة بناء الدولة، وتهيئ نفسها لاستلام السلطة وحدها أو ضمن حكومة اتحاد وطني وأن تجري نقداً ذاتياً علنياً تدين فيه مشاركتها في سلطات الفساد والإفساد، وسيقدر الشعب اللبناني لها عذرها، إذا كان عذرها عدم قدرتها سابقاً على مواجهة النظام الأمني.
6 على الحزب الشيوعي اللبناني أن يخرج من غفوة فرضها عليه موقفه المستقل وأزمته الداخلية وحصار الأجهزة وسياسة القمع اللبنانية السورية، فيجمع الذين تظاهروا معه في حصرايل أو في ساحة رياض الصلح في مؤتمر استثنائي، ويعقد مصالحة بين الشيوعيين ومع الشيوعيين كلهم، المنتظمين وغير المنتظمين، تعيد الوهج إلى تاريخ الحزب الناصع، وأن يستفيد من انتشاره بين كل الطوائف والمناطق، ليكون طرفاً أساسياً في إعادة بناء الوطن.
7 أما حزب الله فحصته من القرارات الجريئة أكبر من حصة سواه، وذلك لأسباب شتى، منها أنه الطرف الأساسي الذي تباهى بجمع حشد كبير من الناس في ساحة رياض الصلح، ولأنه حزب المقاومة والتحرير، ولأنه يكاد يكون الحزب الوحيد، باستثناء المجموعات التابعة للأجهزة، الذي ما زال متمسكاً بالدور السوري، حتى بعد انسحاب الجيش السوري، ولأنه يمثل مع حركة أمل، الجزء الأكبر من الطائفة الشيعية في لبنان. وربما كان عليه أن يعيد النظر بكل هذه العناصر/ الأسباب.
أ القدرة على الحشد لا تبني وطناً. فقد سبقه إلى هذا الإنجاز قادة وأحزاب، لكن تلك الحشود، على ضخامتها، لم تكن كافية لبناء الوطن، لأنها كانت تشكو من انحصارها في منطقة أو طائفة، فحركة كمال جنبلاط، وهي الأكبر في تاريخ الصراع بين اللبنانيين، لم تنجز مهمتها لأنها كانت متهمة بالانحياز، بالرغم من علمانيتها الصريحة، لصالح المسلمين ضد المسيحيين. كما كانت تشكو من أمر آخر وهو استعانتها بقوى خارجية ضد خصوم الداخل، كاستعانة الحركة الوطنية بالوجود الفلسطيني المسلح من أجل القيام بإصلاحات في النظام السياسي اللبناني، ناهيك عن صيغ الاستدراج الأخرى.
ب الحشد الكبير كان في معظمه شيعياً. وما بدا في الحشد ظاهرياً أنه تعبير عن انتصار شيعي، ليس سوى هدر للدور الذي لعبه الشيعة في بناء الوحدة الوطنية. ففي بداية الحرب الأهلية كانت المشاركة الشيعية الكثيفة في القتال، مع الحركة الوطنية والثورة الفلسطينية، تعبيراً عن حاجة الطائفة إلى أن تكون شريكاً في الوطن إلى جانب السنة والموارنة، وعن حاجتها للخروج من حالة تهميش مزمنة، هي في أحد معانيها، شعورها بأنها تقيم خارج الوطن، وكأن دولة الاستقلال لم تنعم عليها كما أنعمت على سواها من خيرات الدولة ومن رعايتها.
مع المقاومة اللبنانية، منذ السبعينيات وحتى تحرير التراب اللبناني من الاحتلال الاسرائيلي، تعاظم الشعور الشيعي بالانتماء إلى الوطن، وإلى جانبه مشاعر مركبة من الزهو بموقع الطائفة المستجد بعد الطائف في السلطة وأجهزتها، وبموقعها في عملية التحرير، وهو زهو ملتبس بسبب التباس موقع السلطة ذاتها وهويتها الفاسدة والقمعية، وبسبب الاعتقاد الواهم بأن الطائفة اكتشفت نفسها وقوتها وكسبت نفسها واستعادت هويتها الضائعة. غير أن الطائفة، أية طائفة، لا تكسب شيئاً إن هي كسبت نفسها وخسرت الوطن، وان الكسب الوحيد الذي يمكن أن تجنيه الطوائف هو مساهمتها الفاعلة في ترسيخ الوحدة الوطنية اللبنانية.
إن حزب الله مطالب اليوم، عشية الخروج السوري، أن يستكمل عملية التحرير المجيدة التي قام بها، في ظل احتضان الشعب اللبناني لسلاحه ومقاتليه، بتحرير الوطن من فاسديه ومفسديه ومبددي ثروته ومدمري وحدته الوطنية. وهو مطالب بأن يجيش الشيعة في إعادة بناء الوطن والدولة، ولن يكون وجوده المسلح إلى جانب الدولة أو بموازاتها أو بديلا عنها، إلا انتهاكاً صريحاً لسيادتها، وبناء عليه فهو مطالب بأن يبتكر حلا لهذه المسألة من داخل الوحدة الوطنية لا ضدها.
ج بين الوفاء لسوريا والولاء لسوريا فرق كبير جدا، ولا نعتقد أن حزب الله يجهل ذلك. فالوفاء شرط ضروري لمنع أي شطط ظهر وقد يظهر في بعض الشعارات الشوفينية والتصعيدية لدى بعض المعارضة، ولبناء العلاقات اللاحقة بين لبنان وسوريا استنادا إلى معطيات التاريخ والجغرافيا والمصير المشترك والانتماء العربي.
غير أن طرح << الوفاء لسوريا>> كشعار في مواجهة المعارضة من شأنه أن يحول الوفاء إلى ولاء، وأن يجعل حزب الله أداة للدور السوري بعد الانسحاب، بعد أن كان عماد التحرير والوحدة الوطنية. ذلك أن الوفاء الحقيقي هو وفاء لمستقبل العلاقات اللبنانية السورية لا لماضيها، ولا يجدي الوحدة الوطنية أن ينقسم اللبنانيون اليوم على أساس الموقف من 1559، ذلك أن سوريا حين دخلت إلى لبنان دخلت بقرار دولي وهي اليوم تخرج بقرار دولي، أما إذا كان سبب دخولها الدفاع عن مصالح اللبنانيين فقد كان أولى بها أن تناقش معهم وأن تمنحهم لا أن تمنح سواهم ثمن انسحابها.
من ناحية أخرى لا يجوز أن يغدو هذا الشعار بمثابة استغباء سياسي للبنانيين، ذلك أن التدخل الخارجي هو، بالدرجة الأولى خدمة لمصالح المتدخل، وكان هدفه، بالنسبة إلى سوريا، منذ اللحظة الأولى وحتى اليوم، هو القبض على الورقة اللبنانية والفلسطينية لتحسين شروط صراعها مع إسرائيل. وإذا كانت محصلة التدخل السوري هو تخلي من دخلت لمساعدتهم عنها، فذلك لا يعني قلة وفاء منهم لها، بل يثبت أن ما افترضته تضحية من أجل اللبنانيين لم يكن إلا واجبها في الدفاع عن استراتيجيتها في إدارة الصراع القومي وفي إدارة الشأن الداخلي، وهي استراتيجية أثبتت فشلها في إدارة الشأن اللبناني، لا سيما في بناء الدولة الأمنية التي مارست القهر على اللبنانيين بالأجهزة اللبنانية والسورية.
د إن وحدة المسار والمصير بين لبنان وسوريا يستوجب أن تقتدي سوريا بنموذج التحرير اللبناني لا العكس. يعني ذلك أن على حزب الله أن يناقش ما إذا كان بإمكانه أن يتبوأ قيادة حركة التحرر الوطني في العالمين العربي والاسلامي، بديلا عن ميله إلى الانخراط في الاستراتيجية السورية، والسورية الإيرانية جوازاً. وفي رأينا أن حركة التحرر الوطني، في صيغتها القديمة ماتت، وأن تحرير لبنان من الاحتلال الاسرائيلي كان، على ما وصفه الحزب الشيوعي اللبناني حين أطلق المقاومة الوطنية اللبنانية، سباحة ضد تيار الانهيار القومي، وهو استثناء يثبت القاعدة ولا ينفيها، وقد بات على سائر قوى التحرر، بما فيها حزب الله، أن تعيد قراءة تجربتها لتستنبط خطة جديدة في مقارعة الامبريالية والصهيونية والاستعمار الجديد، على ضوء معطيات ووقائع جديدة، من معالمها أن الحروب التبشيرية والدينية قد صارت من الماضي، وأن الحرب الباردة انتهت بزوال الاتحاد السوفياتي، وأن الدولة الدينية التحررية ليست إلا وهم استبدال العمائم بضباط الجيوش والأجهزة، وأن الديموقراطية هي خير سبيل إلى وحدة وطنية تجند الطاقات وتحشد الهمم والجهود في مواجهة أعداء الوطن.
من الوقائع والمعطيات الجديدة أن الوحدة القومية، في صيغتها القديمة، ماتت منذ انهيار النماذج الوحدوية في الستينيات، أو على الأقل منذ احتلال العراق الكويت أو السيطرة السورية على لبنان، وأن الوحدة الإسلامية ماتت مع هارون الرشيد أو بعده بقليل، وأن الدول والكيانات الحديثة على تشابه مناشئها القومية أو الدينية باتت لا ترى تناقضاً بين الانتماءين القطري والقومي. على هذا الأساس صارت القضية الفلسطينية في عهدة أبنائها الذين ناضلوا طويلا لانتزاع صفة <<الممثل الشرعي الوحيد>>، وصار على الملتزمين بالقضية الفلسطينية أن يناضلوا وراء القيادة الفلسطينية لا بديلا عنها، وصار لزاماً على حزب الله أن يتخلى عن شعار تحرير فلسطين، وأن يترك للقيادة الفلسطينية اختيار أشكال المساعدة التي تطلبها من أجل تحقيق أحلام الشعب الفلسطيني في بناء دولته واستعادة أرضه المغتصبة.
حزب الله مطالب بقرار جريء بالتخلي الطوعي عن الحصة التي اقتطعها لنفسه على حساب الدولة، وبالانخراط في السلم الأهلي اللبناني وفي إعادة بناء الوطن والدولة.
() أستاذ جامعي

1