نـقـاش مـع "حـركــة الـيـســار الـديـمـوقــراطــي"
فـي الـمـمـكـن والـواقــعــي والـمـســتـحــيـل
كـمـيـل داغـر
على الرغم من أن مشروع الوثيقة السياسية لحركة اليسار الديموقراطي الذي نشر في "ملحق النهار"، في 25 نيسان الماضي، يبدأ بإعلان أنه تعبير عن تلاقي ما يسميه "يساريين من مشارب فكرية متعددة، ماركسيين وغير ماركسيين، الخ..."، فمن الواضح أنه ينطلق، بوجه خاص، من تجربة جزء غالب في هذا اللقاء، يتحدر من الحزب الشيوعي اللبناني، وأنه يعطي الانطباع بقوة بكونه يحاول أن يرد، في جانب اساسي منه، على تجربة هذا الحزب، والاحزاب الاخرى ذات الاصول الستالينية.
هذا والجدير ذكره، ان النص يتميز بايجابيات أكيدة، ولاسيما ما يعلنه عن القطع الكامل مع الستالينية كمرجع في السياسة والتنظيم، ومع الاشتراكية السوفياتية نموذجاً في الاقتصاد والاجتماع"، وعن الميل الشديد، لدى واضعيه، الى الديموقراطية، سواء في الحياة التنظيمية، او في تصور العلاقة بين التنظيم والناس، بصورة عامة. الا أنه يستبطن، في الوقت نفسه، الخلل العميق في موازين القوى، الناجم عن انهيار المعسكر البيروقراطي، الذي كان يزعم بناء الاشتراكية، كما عن الهجمة الشرسة، في العقود الثلاثة الاخيرة، للنيوليبرالية وما يتلازم معها من نزعة عسكرية متفاقمة. وهو واقع ينعكس بشدة على جزء اساسي من حركة اليسار، عبر العالم، ومن ضمنه في لبنان. وهذا الانعكاس يجد تعبيراته الاساسية في النص المذكور في ما يأتي:
أ- الرفض الواضح لأي شكل من اشكال التغيير الثوري، والتطلع، في المقابل، الى مدخل وحيد لعملية التغيير، هو ما تسميه الوثيقة بالتغيير السلمي الديموقراطي، معبراً عنه بـ"بناء دولة الحق والقانون والعدالة الاجتماعية"، وبالاصلاح عامة.
ب- الخلط المتعمّد بين مفهومي الانقلاب والثورة الاجتماعية، عبر الجمع بينهما في وصف الحزب الشيوعي اللبناني والاحزاب المشابهة له. الامر الذي، في حين يستدعي الانتباه الى مدى التعسف في ذلك، يستتبع ايضاً الحاجة الى إبراز حقيقة ان الحزب الملمّح اليه لم يكن تاريخه يوحي يوماً بأنه انقلابي، والأهم من ذلك، وبوجه أخص، بأنه ثوري.
ج- رغم دعوة واضعي الوثيقة الى النضال لتجاوز الرأسمالية السائدة، فهم يرفضون تبني الاشتراكية كهدف نهائي، معتبرين أن ذلك ينتمي الى "الاهداف الخيالية"، وأنهم يودون تحديد صورتهم "لا في الاهداف الخيالية بل في المعارك الملموسة من اجل التغيير، وعلى اساس معايير الامكان اكثر من معايير الجذرية".
د- رفض واضعي الوثيقة للمركزية الديموقراطية الحزبية، انطلاقاً من رؤيتهم هذا المفهوم، كما مورس في ظل الستالينية، على وجه الحصر، وليس في الممارسة البلشفية الفعلية، في عصرها الذهبي، ولاسيما قبل استلام السلطة، وحتى المؤتمر العاشر، في العام ،1921 الذي أوقف حق التكتل، موقتاً، مفسحاً في المجال امام تحول الموقت الى نهائي، ومساهماً في تعبيد الطريق امام إلغاء حق الاتجاه لاحقاً، وتالياً اكتمال سيرورة التبقرط الستاليني، في الحزب، كما المجتمع. وهم يبررون رفضهم هذا، ايضاً، بربطهم "نظرية المركزية الديموقراطية" بما يسمونه "فلسفة التغيير الانقلابي".
ونحن اذا كنا سنرد بوجه اخص على هذه النقاط الاساسية، سنكتفي بعد ذلك بأن نتناول، ولو سريعاً جداً، بعض النقاط المتعلقة بالوضع اللبناني، من جهة، وبالمهام العربية، من جهة اخرى، علماً بأن ذلك لا يشكل كامل رؤيتنا النقدية لهذا النص، التي لا تسمح بإبرازها شروط الحجم المتاح لمقال (في "الملحق")، وبأنه يبقى في كل حال مدخلاً لمقالات محتملة اخرى.
اولاً: بين الانقلاب والثورة الاجتماعية
لقد سبق أن ألمحنا الى ما تتضمنه الوثيقة من خلط بين مفهومي الانقلاب والثورة الاجتماعية. وهو الامر الذي لا يظهر فقط من روح النص ومضمونه الاجمالي، وذلك في سياق رفض المفهومين معاً والاستعاضة عنهما بالتغيير السلمي الديموقراطي، بل ايضاً بالجمع بين صفتي الثورة والانقلاب - بصورة عشوائية فاضحة، في حين انهما مفهومان متناقضان جذرياً، وينفي أحدهما الآخر بصورة مطلقة-، وذلك في معرض إعلان القطع مع ما تسميه الوثيقة "تجربة الحزب الثوري الانقلابي".
وهذا الموقف ليس حكراً، بالتأكيد، على اصحاب الوثيقة، ولا هو ماركة مسجلة لهم، بل بات يجمع الكثيرين من اليساريين المعاصرين، واليساريين السابقين، عبر العالم، بعد الانهيار الستاليني المدوي في أواخر الثمانينات - اوائل التسعينات من القرن الماضي. وقد كان أحد تعابيره الخلط المقصود بين قادة اول ثورة اشتراكية ظافرة في التاريخ، وفكرهم وممارستهم، من جهة، وستالين - الرمز القيادي الذي قضى على معظمهم، وعلى مئات الالوف الآخرين من الشيوعيين، في سياق ثورة مضادة حقيقية في الثلاثينات من القرن المذكور - والستالينية بشكل عام. اكثر من ذلك، لقد كان احد تعابيره ايضاً النظر الى ثورة اكتوبر الروسية على أنها لا اكثر من انقلاب اضطلع بتنفيذه الحزب البلشفي، في حين سبق أن أجمع مؤرخون مختلفون جداً، ومن أقصى اليسار وصولاً الى اليمين المعادي بصراحة للثورة والتغيير الثوري، على أنها كانت قبل كل شيء "نقطة الذروة في احدى الحركات الجماهيرية الاشد عمقاً في التاريخ" (1)، بحسب تعبير أرنست ماندل، الذي ينقل عن ناقد شرس للبلاشفة، هو مارك فيرون قوله: "في المقام الاول كانت البلشفة ناتج تجذر الجماهير وكانت هكذا تعبيراً عن الارادة الديموقراطية" (2)، وعن المؤرخ الالماني اوسكار انوايلر، وهو ناقد صارم آخر للشيوعيين: "كان البلاشفة يحوزون الاكثرية في مجالس النواب في كل المراكز الصناعية الكبرى تقريباً، كما في معظم مجالس نواب الجنود في حاميات المدن" (3).
ثانياً: حول الاهداف النهائية
إن مختلف النقاط التي يطرحها النص كمهام لليسار الديموقراطي والحركة الجماهيرية تندرج في الاطار الاصلاحي البحت، وذلك من داخل المجتمع والدولة البرجوازيين. لا بل تغيب تماماً عن البرنامج الذي تحدده الوثيقة، ليس فقط مسألة الهدف الاشتراكي، بل حتى أي من المهام الانتقالية التي يمكن ان تشكل واسطة العقد بين المجتمع الراهن والمجتمع الاشتراكي. والغريب أن الوثيقة، التي تنظر الى الاشتراكية على أنها شيء ينتمي الى الاهداف الخيالية، لا تجد بداً مع ذلك من الاشارة الى ضرورة "مواجهة الرأسمالية السائدة والنضال من اجل تجاوزها لصالح مجتمعات انسانية عادلة (...) تقوم على التوزيع العادل للثروات، وتؤمن بالديموقراطية وتمارسها".
إن مفهوم العدالة، والعدالة الاجتماعية يتكرر كثيراً في النص، ولكن من دون أن يوضح ما عساها ستكون طبيعة المجتمع الذي ستتحقق فيه العدالة المشار اليها، ولاسيما أنه يعطي انطباعاً واضحاً بانطوائه على موقف سلبي من اي تحليل طبقي، ولا يشير لا من قريب ولا من بعيد الى صراع الطبقات في المجتمعات الراهنة، والى التطلع في نهاية المطاف الى زوال الطبقات. ولقد كان واضحاً في قصر اهتمامه على "معايير الامكان، بحسب تصور واضعيه، اكثر من معايير الجذرية". وهو الامر الذي يجعلنا، في ظل غياب اي وضوح لمفهوم العدالة الذي هو اقصى ما تطرحه الوثيقة، نصل الى القناعة بأن فكر اليسار الديموقراطي اللبناني، الذي تقدمه لنا، ليس اكثر من نسخة معاصرة للبرنشتاينية، التي سبق أن حللتها بعمق روزا لوكسمبورغ وحددت موقفاً حاسماً منها، ومن اقتصارها على الدعوة فقط للنضال ضد التوزيع الرأسمالي، لا ضد نمط الانتاج الرأسمالي. ناهيك عن موقفها من مفهوم العدالة لدى المفكر الاصلاحي الالماني، ادوار برنشتاين، حيث تقول: "هكذا نعود بحبور الى مبدأ العدالة، ذلك الحمار الذي امتطاه مصلحو الارض اجيالاً عديدة، لافتقارهم الى وسائط نقل تاريخي افضل. نعود الى "روسينانت" المأسوف على ذكراها التي امتطى صهوتها كل دونكيشوتات التاريخ وخبّوا بها نحو الاصلاح العظيم للارض، ليعودوا دوماً وقد اسودت منهم الوجوه" (4).
في كل حال، إننا لنظن أن استبعاد النص لمقولة الاهداف النهائية، إنما هو ناجم، قبل كل شيء، عن أن طرحها، وتالياً طرح قضية الاشتراكية، ولو كأفق بعيد للنضالات الراهنة - بما هي قضية مجتمع لا يقتصر فقط على البنيان الاقتصادي، بل يتجاوزه الى الاخلاق الاشتراكية، ولا يكتفي بالنضال ضد البؤس، بل يطرح بالاولوية، بحسب الثائر الأممي، ارنستو غيفارا (5)، النضال ضد الاستلاب - إنما يمكن أن يؤثر في رؤية طبيعة الاصلاحات المقبولة وحدودها ومداها.
ثالثاً: حول المركزية الديموقراطية
إن النص هجومي بوضوح بخصوص ما يسميه "نظرية المركزية الديموقراطية"، التي يرفضها، قبل كل شيء، على اساس انها ارتبطت، بحسب زعمه، "بفلسفة التغيير الانقلابي، وبممارسات إسقاط الهيئات القيادية والخيارات على قواعد الحزب السياسي وقطاعاته وعلى المجتمع عامة (...)". كما ان هذه المركزية قامت على نظام انتخاب اكثري للهيئات أثبت تنافيه مع مبادئ الديموقراطية".
وفي الواقع، إن واضعي النص لم يكلفوا انفسهم، على الارجح، إعمال البحث بصورة كافية للتعرف الى المركزية الديموقراطية الفعلية، كما مارسها الحزب البلشفي، في الاصل، حتى مؤتمره العاشر، عام .1921 وهي تختلف بصورة جذرية عن المركزية البيروقراطية الستالينية، التي تنطبق عليها بالتأكيد الاوصاف الواردة أعلاه. ذلك ان المركزية الديموقراطية بالمفهوم اللينيني الاصلي كانت تترك مجالاً واسعاً جداً للديموقراطية التنظيمية، على حساب المركزية وتفسح في المجال واسعاً، ليس فقط أمام حرية الاتجاه داخل الحزب، بل حتى حرية التكتل، (او ما تسميه وثيقة اليسار الديموقراطي اللبناني حرية التيارات). اكثر من ذلك، كانت الهيئات القيادية التقريرية، ومن ضمنها بوجه خاص المندوبون الى المؤتمر، تنتخب على اساس النسبية، وفقط الهيئات التنفيذية (ممثلة بالمكتب السياسي) كانت تنتخب على اساس اكثري. وحتى هذه الهيئة بقيت تضم بين اعضائها ممثلين عن الاقلية، وصولاً الى عام ،1927 حين حسمت موازين القوى نهائياً لصالح المركز الستاليني، في ظل التنامي الخطير لوزن البيروقراطية الستالينية على حساب السوفييتات، لاسباب عديدة بين أهمها انحسار الموجات الثورية العالمية، وظروف الحصار الرأسمالي الشامل للدولة العمالية الاولى في التاريخ.
في كل حال، اذا كان واضعو الوثيقة يرفضون ايضاً المركزية الديموقراطية بصيغتها البلشفية الاصلية، وكما أوضحناها بايجاز أعلاه، فكيف سيكون بالامكان ممارسة القيادة في حركتهم، بما يتيح لهم تنفيذ برنامجهم؟ وكيف سيكون بالامكان انتخاب كل الهيئات من القاعدة مباشرة وبصورة كاملة، ولاسيما اذا كانوا يطمحون الى أن تتحول حركتهم الى حركة جماهيرية فاعلة؟ بمعنى آخر هل يمكن تصور انعقاد مؤتمر اعضاؤه هم كل اعضاء الحزب او الحركة، ولاسيما حين يكون هؤلاء بالآلاف، لكي لا نقول اكثر؟ وكيف يمكن أن يتم نقاش البرامج في مثل تلك الحال؟ ثم ما المعنى العملي لربط اهمية القيادة بكونها "الجهة الاكثر تمثيلاً وليس العليا (او الدنيا)"؟ واخيراً هل ثمة نماذج عبر العالم يتخذونها مثالاً لهم؟ واين هي موجودة على ارض الواقع؟
رابعاً: التغيير في بعده العربي
بين ما تقوله الوثيقة بوجه خاص: "إن البعد المستقبلي للانتماء العربي وللهوية العربية، بما هي هوية حضارية ثقافية تشترك ليس فقط في اللغة وانما في الارث الثقافي والتاريخي ومشاعر الانتماء الحضاري، هو الأهم في رأينا".
وهكذا فما يجمع ابناء هذه الهوية، وما هو "الأهم" بالنسبة لواضعي النص انما يرتبط بالفكر والثقافة والمشاعر. اما المصالح الاقتصادية، كما الاجتماعية والسياسية، فمغيبة فيه تماماً. ونأمل أن يكون هذا التغييب هو من قبيل السهو لا أكثر، وليس مقصوداً. غير ان هذا الغياب يعبر عن نفسه في المهام، التي اذا كانت تتحدث عن التنسيق والتكامل والتنمية واشاعة الديموقراطية، فهي تتجاهل احدى الأهم بين المهام التي تطرحها تلك المصالح، فضلاً عن "الارث الثقافي والتاريخي، الخ..."، وهي الوحدة العربية على وجه التحديد، التي بدونها لن يمكن مواجة العولمة الرأسمالية الراهنة والهجمة الشرسة للامبريالية الاميركية، من جهة، وللصهيونية العالمية واسرائيل من جهة اخرى، ناهيك عن مشكلات التخلف والتمزق والنهب الخطير للثروات العربية.
إن العالم المعاصر، الذي تسعى دول كثيرة جداً، في مناطق مختلفة منه، الى التوحد، إزاء طبيعة المرحلة الراهنة من هجوم العولمة الرأسمالية، المتلازمة مع الموقع المهيمن بصورة طاغية للامبراطورية الاميركية فيها، وتعطي الدول الاوروبية واحدة من صوره الاكثر تميزاً وبروزاً، هذا العالم لا يمكن أن تبقى المنطقة العربية خارج تلك النزعة فيه الى الوحدة، او تخرج في الواقع من التاريخ.
وبالطبع إنها مهمة يصعب تحقيقها الى أبعد الحدود، لكثرة ما هنالك من قوى ليس فقط على المستويين العالمي والاقليمي، بل ايضاً على المستوى العربي بالذات، تتعارض مصالحها معها جذرياً. فهل هذا هو السبب، ايضاً، في استبعادها من برنامج حركة اليسار الديموقراطي في لبنان، على اساس مفهوم واضعي وثيقته لما يسمونه "معايير الامكان"؟! او ان هذه المهمة، ايضاً، من الاهداف النهائية، التي ربما تشارك الاشتراكية، هي الاخرى، طابعها الخيالي؟!
في كل حال، إن هذا الابراز المتكرر، على امتداد الوثيقة، لحرص واضعيها على "سيادة" لبنان و"استقلاله"، و"مصالحه الوطنية"، يمكن ان يقدم لنا جانباً مهماً من عناصر تفسير الخلفية الفعلية لهذا الاقصاء الصارخ لمهمتين يفترض ان تكونا متلازمتين واساسيتين جداً في برنامج متقدم حقاً ليساريين لبنانيين وعرب. إنهما الوحدة العربية والبناء الاشتراكي. بدونهما سوف يكون المستقبل تحت رحمة المزيد من التجزئة، وفي الوقت نفسه المزيد من الانكشاف امام قوى الظلامية الدينية الداخلية، من جهة، والهيمنة الخارجية، من جهة اخرى.
خامساً: في الوضع اللبناني
أخيراً، وفي ما يخص الوضع المحلي، سنكتفي بطرح بعض الاسئلة:
1- حول المسألة الطائفية، التي نشارك واضعي الوثيقة جانباً اساسياً من تصوراتهم بخصوصها، لا نجد بداً من التساؤل حول الوظيفة الفعلية لمجلس شيوخ لبناني تتمثل فيه الطوائف، وأي علمنة يمكن أن تتحقق في ظل وجوده، في بلد تعتبر الوثيقة أنه يجب أن يلعب دوراً اساسياً في الحيلولة دون تحقق ما تتخوف منه، على المستوى العربي، من "انتكاسة حضارية ثالثة"؟
وازاء اهتمام واضعي الوثيقة بالغاء الطائفية من وعي الناس ومشاعرهم، لماذا هذا التغييب لمسألة الزواج المدني، ولضرورة اقرار قانون مدني للاحوال الشخصية يضع حداً لسلطة الطوائف الباقية الى الآن في هذا الموضوع المفرط في حساسيته، هذه السلطة التي تعمق يوماً بعد يوم عوامل الانشطار الطائفي؟
ومن جهة اخرى، وفي موضوع اقتصادي بالغ الاهمية كموضوع الخصخصة، ألم يكن من الضرورة بمكان ألا تكتفي الوثيقة بنفي صفة الحل السحري عن خطوة من هذا النوع، وان تبادر على العكس، الى رفضها بالكامل، بما هي أحد التنازلات الخطيرة، لصالح الهجمة النيوليبرالية المعاصرة، وتوجهات صندوق النقد والبنك الدوليين؟
ثم، وفي موضوع الجيش، ألا يجد واضعو الوثيقة ان طبيعته الراهنة تستدعي اعادة النظر بصورة جذرية بالدور الذي يعد لأدائه كأداة قمع داخلية وحسب للحركة الشعبية، كما ظهر الى الآن من المجازر التي ارتكبها سواء بحق المتظاهرين على صعيد القضية الوطنية، (في اوائل التسعينات اثناء التظاهر ضد اتفاق أوسلو)، او اخيراً بحق المتظاهرين في الضاحية الجنوبية دفاعاً عن قوت الشعب ورداً على سياسة الدولة الاجتماعية والاقتصادية؟ وهل هذا الجيش، بالضبط، هو الذي يمكن أن يدعى الى استلام الحدود مع العدو الاسرائيلي، كما تفعل الوثيقة، وقبل أن تسبق ذلك اعادة نظر جذرية في طريقة انفاق المخصصات المرصودة له، وفي الوظائف الفعلية الموكلة اليه؟
سادساً: خاتمة
على الرغم من إصرار هذه الوثيقة على اهتمام واضعيها بالبعدين العربي والأممي، فقد كان من الواضح أنها تغيّبهما في الجوهر، مشددة، كما سبق وأشرنا، على السيادة والاستقلال والمصالح الوطنية. ومن هذا المنطلق تركز على ربط مفهوم التغيير بمعايير الامكان لا الجذرية. الامر الذي يدفعنا الى استنتاج مرتبط بتعريف اصحاب الوثيقة نصهم، في نقطة الانطلاق، بأنه ناتج تلاقٍ بين ماركسيين وغير ماركسيين. هذا الاستنتاج يمكن اختصاره بأنه اذا أمكن التسليم بوجود ماركسيين ضمن اللقاء المشار اليه، فلا شك في أنهم يتخلون عن جوهر البرنامج الماركسي لصالح برنامج الطرف الآخر في المعادلة.
حقاً لقد شهدت العقود الاخيرة انهيارات كبرى واختلالات خطيرة في موازين القوى الاجتماعية والسياسية على المستوى العالمي، لكنها يجب ألا تطمس حقيقة اساسية يطرحها عصرنا والتفاقم البالغ للتناقضات، والانفلات الهائل للنزعة العسكرية ولاتجاهات الاستغلال المفرط، ليس فقط للانسان بل كذلك للكوكب بأسره. هذه الحقيقة البسيطة يمكن اختصارها بأن ما ينظر اليه النص على أنه ينتمي الى الاهداف النهائية، لا بل الخيالية، عنينا مطلب الاشتراكية، إنما يتوقف على مجيئه او العكس، ليس فقط الاستمرار في الخط الصاعد للحضارة او العودة الى الهمجية، بل ايضاً بقاء الانسان على كوكب الارض او الاستئصال الناجز للوجود البشري، لا بل لكامل مظاهر الحياة، على اختلافها. وهو امر يدفعنا لاستعادة تلك الكلمة، المتناقضة للوهلة الاولى، لكن الجدلية بامتياز، وبعيدة النظر جداً، والعقلانية للغاية - التي يمكن ان تصلح رداً، قبل وقت طويل، على ما تطرحه الآن "حركة اليسار الديموقراطي" في لبنان، من استبعاد باسم الممكن لأهداف تعتبرها خيالية - والتي كان أطلقها "تشي" قبل وقت قصير من استشهاده، بقوله:
Seamos realistas, exijamos lo imposible
"نحن واقعيون، نطلب المستحيل" .
-------------------------------
1) أرنست ماندل، أكتوبر ،1917 انقلاب أم ثورة اجتماعية؟، دار الالتزام، بيروت ،1998 ص.29
2) مارك فيرون، من السوفييتات الى الشيوعية البيروقراطية، باريس، ،1980 ص139-.140
3) أ. أنوايلر، السوفييتات في روسيا 1905-،1921 باريس ،1971 ص.231
4) روزا لوكسمبورغ، اصلاح اجتماعي أم ثورة، دار الطليعة، بيروت، ،1971 ص.64
5) مجلة الاكسبرس الفرنسية، 25 تموز ،1963 ص.9