حسام عيتاني
2005/05/25 معتقلو منتدى الأتاسي

2005/05/24

من أضاع التحرير؟

2005/05/20

في الضحك على الشباب

2005/05/17

اليسار يستيقظ مذهولا

2005/05/13

أخطاء في الترجمة
2005/05/10 هل نتحمل الحقيقة؟

2005/05/06

مكافحة تمرد
2005/04/22 عدوى الإمساك بالحقيقة

2005/04/19

الشهيد الأخير

2005/04/15

على مقاعد الدراسة
2005/04/13 الحرب... كرنفالنا الوطني
2005/04/12 بعضنا أذنب أكثر من الآخر
2005/04/05 الأحياء والأموات
2005/04/01 كيف فضحنا الكعك
 

معتقلو منتدى الأتاسي

نخشى القول ان بين معتقلي <<منتدى الأتاسي>> في سوريا امس، اصدقاء واساتذة، فتزداد معاناتهم مرارة. ونخشى الاعراب عن غيظنا من توقيف رجال وسيدتين كان همهم ارساء حوار ديموقراطي في بلادهم فيُتَّهمون بما لم يدر لحظة في بالهم. ونخشى ان تتحول الدعوات الى الافراج غير المشروط عنهم وعمن سبقهم الى زنزانات الامن، الى قرائن واثباتات على تعاملهم مع الخارج وتواطئهم ضد النظام.
أي الكلمات هي الادق والاسلم للتعبير عن الضيق والحزن ازاء ما يجري في سوريا منذ اسبوعين؟ وهل يستقيم البحث عن كلمات لا تخدش السلطة مع تجاهل هذه لما يخدش ضمير العالم؟ وكيف يمكن لمواطن عربي ان يعلن رفضه لاعتقال مجموعة مسالمة ناهيك بالصفات السامية لكل منهم لأنهم عبروا عن رأي مخالف لما تود أي سلطة ان تسمع؟
في مقالته التي كتبها الاستاذ حسين العودات في <<السفير>> في 20 ايار الحالي، ابدى اسفه لخيبة الامل التي شعر بها السوريون بعد تجدد الاعتقالات ولسوء قراءة من في السلطة للواقع في الداخل والخارج. ولا ريب في ان اسف <<ابو خلدون>> سيتضاعف عند قراءته ما اوردته وكالات الانباء نقلا عن <<مصدر اعلامي سوري>> قال ان <<مساحة الحوار في سوريا مفتوحة امام جميع الافكار الوطنية المخلصة بعيدا عن التطرف وتحت سقف القانون>> متهما اعضاء اللجنة الادارية في المنتدى بترويج افكار الاخوان المسلمين.
<<ترويج الافكار>> بحد ذاته ومهما كانت الافكار طالما هي كذلك يجب الا يكون تهمة في أي مكان من العالم. كما لا نتصور ان اشخاصا مثل المعتقلين هم من هواة <<ترويج افكار>> أي جهة كانت، خصوصا الاستاذ حسين العودات الذي نعرف اصراره على الحوار الراقي من الموقع العربي البحت والمدافع عن سوريا وعن لبنان.
اخيرا، لا ندري سببا لهذا الاصرار على خلق الاحزان المتجددة في بلاد الشام، بلادنا، ولا ندري اذا كانت ضغوط الخارج تُجبَه على هذا النحو.

من أضاع التحرير؟

بعد خمسة أعوام على التحرير، ما زالت التضحيات التي بذلت في سبيل تحقيق هذا الإنجاز موضع احترام.
لكنّ هناك مسألتين تستحقان النقاش في هذه الذكرى. الاولى هي تحول الاحتفال بالذكرى الى نوع من الطقوس التي تبعد كل الحقبة التي سبقت وأعقبت التحرير عن النقاش الموضوعي والضروري في هذه المرحلة من تاريخ لبنان. المسألة هذه تقود الى الثانية. فإخراج موضوعي التحرير والمقاومة من السياسة وجعلهما اقرب الى الاحتفالات الدينية والشعائر، يغمط أهمية الدروس الواجب استخلاصها من التجربة الكبيرة التي كانتها المقاومة.
وإذا قرئت تلك المرحلة من وجهة نظر لا تبحث عن تمجيد الذات، لبدت الصورة مختلفة بشدة. واحد من ملامح هذه الصورة ان القرار الاسرائيلي بالانسحاب من الشريط الجنوبي المحتل لم تمله كله عمليات المقاومة. بل ان مراجعة سريعة للاحداث في شتاء وربيع ذلك العام تشير الى ان القرار اتخذ في سياق الفشل الذي انتهت اليه مفاوضات شيبردزتاون بين سوريا وإسرائيل وإخفاق قمة جنيف السورية الاميركية حيث اقتنعت اسرائيل بضرورة سحب ورقة الضغط الاقوى في يد دمشق أي المقاومة في الجنوب اللبناني. ولا يغيب عن البال ان قرار الانسحاب وإعلانه كانا بندا في استراتيجية تهدف الى عزل دمشق وتطويقها وحرمانها من أي عوامل تعزز بها موقعها التفاوضي.
هذه الاستراتيجية مستمرة حتى اليوم وتجلت مؤخرا في الضغوط التي اسفرت عن سحب القوات السورية من لبنان وستتواصل في المستقبل المنظور. تقع مسؤولية القوى السورية واللبنانية بالضبط في اسداء الخدمات الى القائمين على تنفيذ الاستراتيجية المذكورة. لائحة الخدمات طويلة وتبدأ من الاصرار على ضرب الحيوية السياسية وتفريغ الساحة اللبنانية من كل مكونات حركيتها وتجاهل ان هذه الحيوية هي ام وحاضنة المقاومة، ولا تنتهي بالوهم القائل ان التمديد للرئيس اميل لحود سيرفع سدا في وجه التقدم الاميركي الاسرائيلي.
ليس من مبالغة في القول ان عودة الشريط المحتل الى الوطن لم تساهم في تحسين المناخ العام في البلاد وإن التحرير فقد المعنى الذي كان يمكن ان يضفيه على الحياة السياسية في لبنان لاسباب منها طبيعة القوى المقاومة المحصورة طائفيا وعدم قدرة السلطة اللبنانية والسورية على ادراك ان الاجماع الوطني الذي تشكل حول المقاومة في العامين الأخيرين من الاحتلال، هو اجماع هش لم يتبلور الا في اللحظة التي اقتنعت فيها شرائح كبيرة من اللبنانيين بانتفاء الوجه الداخلي للصراع ضد المحتل، وان هذا الاجماع يحتاج الى رعاية شرطها اطلاق حوار عميق حول معنى الوطن بعد التحرير وتصور كل طائفة وجهة سياسية، لمساهمتها في احياء هذا البلد.
خسر اللبنانيون الفرصة التي اتاحها التحرير لصياغة مفهوم جديد للعلاقات الوطنية وجاء بيان المطارنة الموارنة بعد اربعة اشهر من خروج الاحتلال الاسرائيلي لينعى الاجماع حول المقاومة بإشارته الى ضرورة الانسحاب السوري بعد اضمحلال مبرراته الاكبر. والمفارقة ان هذه الخسارة تشكل المقدمة التي تأسس عليها النقاش القائم والذي ستتصاعد وتائره في الآتي من الايام، والمتعلق بسلاح المقاومة وحقها في احتكار قرار الحرب والسلم بالنيابة عن اللبنانيين مجتمعين... الخ.
كان الاجماع الوطني حول المقاومة، على هشاشته وقصر عمره وارتباطه بشروط كثيرة، هو الانتصار الحقيقي للشعب اللبناني وقد انتهى بانسحاب آخر جندي اسرائيلي من الشريط المحتل ليعود الانقسام الى سابق عهده الميمون.

في الضحك على الشباب

انضم الشباب الى قوافل شهداء سقطوا بأيدي السياسيين التقليديين. وهؤلاء طائفيون وفاسدون لا يقيمون للمبادئ او للأخلاق وزنا ولا قيمة. لقد خدع السياسيون بكلماتهم المعسولة ووعودهم البراقة زهرة الشباب اللبناني وجلبوهم الى الساحات للتظاهر وحمّلوهم عبء <<انتفاضة الاستقلال>>، قبل ان يعود السياسيون المحترفون الى مناوراتهم ومراوغاتهم طمعا في المكاسب والمغانم متجاهلين الآمال والاحلام التي عمل من اجلها الشباب وناضلوا.
تلائم هذه الرواية المنتشرة في <<مجالس العزاء>> الاعلامية اجواء الروايات الاكثر مبيعا (<<البست سيللر>>) التي تخصص في كتابتها مؤلفون يعرفون كيفية جني الارباح قبل خصائص الابداع الادبي. تبدأ الرواية مع حادث جلل: انفجار يودي بحياة زعيم سياسي. تصاب البلاد بصدمة وعلى الاثر تقع الغشاوة عن اعين الجميع من مواطنين فرقتهم انتماءاتهم الطائفية وسياسيين اخطأوا الرهان. وينزل الجميع الى ساحة الوطن ليرفعوا رايات الحرية ويطردوا المحتل. فيتعانق الهلال والصليب ويغمر الجموع نور المحبة في ظل الأرزة الخالدة. ويتحقق لهم ما ارادوا ويرحل جندي الاحتلال الذي عمل على تقسيم صفوفهم وبث العداوات بينهم. تتدخل هنا الضرورة الدرامية لتضيف نوعا من التصعيد على الحبكة، والوسيلة الافضل، كما في جميع الروايات من هذا الصنف: الخيانة. فلا يلبث ان تتكشف وجوه البعض ويعود سيرته الاولى من غدر وتنكر للعهود والأيمان التي قطعها. وتعم الخيبة في اوساط الشباب الى أن يقرر المخلصون الحقيقيون رفض محاولات من خان العهد، وإقناع الشباب بعدم التخلي عن اماني الشعب الطيب التي يحملونها امانة في اعناقهم. وبفضل صمود هؤلاء ونزاهتهم التي لا تشوبها شائبة، يعود بريق الامل الى النفوس ويكون الجميع قد عرف ان الغدر طبع متأصل في نفوس بعض السياسيين، ويكون الشباب قد تعلموا درسا يفيدهم في المستقبل (الحكمة والنهاية المتفائلة في خاتمة الرواية ضروريتان في <<البست سيللر>> بناء على طلب دور النشر الادرى بما يحكم التسويق من اعتبارات).
يمكن لمتمرن في النقد الادبي ان يلحظ ان دور الشباب في هذه الرواية هامشي بحيث لم يقوموا بأي خطوة بمبادرة منهم وانهم لم يطرحوا أي فكرة خلاقة في سياق الاحداث وانهم اكتفوا بأداء ادوار الكومبارس الذين كانوا يفرحون او يأسفون او يحزنون عند منعطفات الرواية. وان أي شخصية من فئة الشباب لم تبرز على المسرح بصفتها الذاتية، بمعنى انها اعلنت عن حضورها من دون ان تكون مرتبطة بمن يكبرها سنا ومقاما ونفوذا طائفيا او حزبيا. لقد كان الشباب <<مجاميع>> مهمتها ملء الساحات والخيم في <<مخيم الحرية>> والمسيرات.
والحال ان من يسعى الى إلباس الشباب اللبناني ثوبا رسوليا وتقديمهم بصفتهم حاملي مشروع وطني منفصل عما تحمله الطوائف وممثلوها السياسيون، يخطئ مرات ومرات. مرة اولى في تحميل الشباب مسؤوليات ما لم يقوموا به وما لم يكونوا مؤهلين له اصلا؛ ومرة في زرع الاوهام في نفوس لبنانيين تنقصهم الخبرة عن امكانية تغيير الصيغ السياسية المهمينة على البلاد بمجرد التجمهر ورفع الاعلام عوضا عن العمل على اقناعهم باولوية العمل المنظم لتنفيذ مشروع سياسي محدد ودقيق؛ ومرة في إلحاق الأذى بإمكانية انخراط الشباب في مشاريع واقعية يكونون هم من يرسم اطرها وآليات عملها.
مناسبة هذا الكلام هي تحول مديح الشباب ودورهم الى اسطورة جديدة تطالب بمكان لها الى جانب الاساطير اللبنانية الاخرى (كبطولة بشير الجميل مثلا)، هذا الى جانب تحويلهم الى ضحايا تم <<الضحك عليها>>، اضافة الى انتشار مفسري رغبات الشباب في التغيير والناطقين باسم الجيل الطالع في صفوف بعض من ابعد السياسيين رغبة في التغيير والاصلاح. وفي ذكرى ثورة الطلاب في ايار 1968، يمكن القول ان من حمل مشروعا ذا مضامين سياسية واجتماعية وحتى اخلاقية، وفشل في باريس، قد يكون على حق اذا احتج على وصف ما جرى في لبنان بأنه ثورة للشباب.

اليسار يستيقظ مذهولا

مع إعلان لوائح الجنوب الفائزة حكما، اسقط في يد اليساريين الذين يعيشون مرة كل اربعة اعوام هول مفاجأة استبعادهم من بين المرشحين المحظوظين. والمفاجأة المتكررة تستحضر مواقف من صنفها حتى ليبدو المشهد برمته متوقعا كتوقع الصدى يُرجعه الوادي.
ولا ينتبه بعض من في قيادات اليسار الى الطبيعة الاقطاعية لامراء اللوائح والطوائف الا بعد ان يعلن هؤلاء اسماء من اختاروهم خاذلين اليسار وأهله برغم الزيارات المتكررة الى قصور الاقطاع السياسي والتقليدي والانتخابي وجميع سائقي المحادل ومعاوني البوسطات. وقد يبدو غريبا الا يكتشف المرشحون المزمنون عن احزاب اليسار وقواه (التي يصر اصحابها على وصفها <<بالقوى الحية>> إصرارا يلقي الضوء على جانب من مشكلات اليسار، ويتطلب التدقيق في تعريفيّ الحياة والموت)، ان حسابات سائق المحدلة ومعاون البوسطة تختلف تماما عن حسابات المرشح اليساري الذي يحاول عبثا منذ تعيين النواب الخمسين في العام 1991، الدخول الى الندوة البرلمانية تسللا وفي روعه أنه قادر على استغفال الطوائف وحُماتها او إقناعهم بفوائده الوطنية العميمة.
المشكلة الاكبر التي تواجه المرشح اليساري لا تكمن في غدر الحلفاء المفترضين ولا في تنكر اهل الخندق الواحد لتضحياته ودوره التاريخي. بل في ان هؤلاء الحلفاء يعرفونه اكثر مما يعرف نفسه. يعرفون وقوفه في ظلهم عاريا من برنامج وخطاب وثقل جماهيري ويعرفون في الوقت ذاته انعدام فائدته في مجال العلاقات الطائفية وفي المجالات الاقليمية والدولية بعد اختفاء الراعي العالمي السابق. ويعرفون ايضا انه لا يملك الا لسانا يطيله على اصحاب <<المقامات الرفيعة>> الذين يطلب منهم اضافة اسمه الى لوائحهم قبل الانتخابات وتختفي منه الحلاوة بعدها. فهو حريص على مبادئه المتعارضة مع آليات الاصطفاء الانتخابي لكنه راغب بشدة في الحصول على مقعد في ساحة النجمة.
فما العمل؟
واحد من مقدمات الإجابة عن هذا السؤال هو ان يقتنع اليساريون ولمرة واحدة وأخيرة بأنهم لن ينجحوا في الوصول بطريقة <<الأوف سايد>> (التسلل) الى مجلس النواب. وأن عداءهم المبدئي (اللفظي) لامراء الطوائف تقابله جماهير هؤلاء، كما قادتها، بعداء مساو. وأن الدور التاريخي يصلح لتأليف كتب تبرزه وليس كعنصر جذب انتخابي.
اما عناصر الجذب، وهي من البداهة بحيث لا تحتاج الى توصيف، فتكمن في القيام بخيارات كبرى على مستوى الاسئلة المطروحة على ساحة الوطن. وبدلا من التغني، على سبيل المثال، بدور اليسار في المقاومة وإطلاقها، عليه ان يجيب عن السؤال المتعلق بمستقبلها من دون مراوغة. وعوضا عن نبش قبور النقابات التي اسسها للدفاع عن مصالح المزارعين، فليتقدم بجردة حساب عن دوره في دفنها وعن تصوره لاحياء العمل النقابي على مستوى لبنان. وإذا كان امراء الطوائف قد خانوا تاريخ النضال المشترك، فما هي الاهداف التي سيناضل اليسار من اجلها في المستقبل ومن هم حلفاؤه من اجل تحقيقها؟
لم تتغير تصورات قيادات اليسار منذ العام 1991 للطريقة التي يمكن ان يصلوا بها الى احتلال مقاعد نيابية: زيارة الى هذا الزعيم ومحاولة إقناع ذاك وتذكير آخر بالعلاقة الوثيقة مع الوالد... وهذه اساليب أقل ما يقال فيها إنها مستقاة من إرث يفترض بمن يزعم انتماءً الى اليسار، شن صراع ضارٍ ضده.
صفوة القول هي ان من يستقيل من محاولة تغيير الواقع، لا يحق له تسلق سُلَّم غيره للوصول الى الابراج العاجية.

أخطاء في الترجمة

بيان المطارنة الموارنة والكلمة التي ألقاها البطريرك نصر الله صفير امام الجموع في بكركي امس، جديران باحتلال مكان متقدم في ادبيات السياسة اللبنانية. فلأول مرة، تخرج الكلمات حاملة المضمون الحقيقي لتوريات اعتادها السياسيون و<<المرجعيات>> والمواطنون.
فلا حديث هنا عن <<توازن وطني>> ولا تسامح كاذباً، بل قول صريح يطلب ما تريده كل طائفة لنفسها، أي حصتها الحقيقية او المتخيَّلة من الدولة. نقول حقيقية او متخيَّلة لأن طموحات الطوائف غالبا ما تتنافى مع الحقائق البسيطة للتركيبة اللبنانية. فعلى سبيل المثال يقول البطريرك صفير انه يريد ان ينتخب ناخبون مسيحيون جميع النواب الاربعة والستين المسيحيين في البرلمان. ولعل الحماسة ذهبت بسيد بكركي الى اغفال ان الناخبين المسيحيين لا يكفون اصلا لانتخاب جميع هؤلاء النواب الذين اضيف قسم منهم الى الحصة المسيحية <<لضرورات العيش المشترك>>، تماما كالكثير من المناصب الاساسية في الدولة وفي مقدمتها رئاسة الجمهورية، بمعنى ان هناك حصة اسلامية اكيدة في كل المناصب المسيحية، سواء التي يتم الوصول اليها عبر الانتخاب او عبر التعيين. هذا من حيث الشكل.
من ناحية المضمون، قد يشعر أي لبناني غير طائفي باستياء شديد من بيان المطارنة، ربما بلغ حدود المطالبة بسحبه، وبتقديمهم اعتذارا علنيا الى اللبنانيين، والى المسيحيين قبل المسلمين، لأن في البيان مساسا بخطوط حمر، منها التهديد الضمني بدفع البلاد الى حلقة جديدة من العنف الطائفي، اذا لم تؤخذ المطالب الواردة في البيان بحذافيرها. ولا يخفى ما في ذلك من نزق قد ينعكس سلبا على ما بقي من الوجود المسيحي في الشرق.
ومما تقدم، يبدو ان المطارنة قد تأثروا <<ببخار>> الأشهر والاسابيع القليلة الماضية، واهملوا مجموعة من الحقائق الصلبة التي يجب ألا تغيب عن بال أي مسؤول او متعاط بالشأن العام.
ولعلهم قد ارتكبوا، وهم المفترض بهم الحصافة، اخطاء في <<الترجمة>> التي تتحدث عنها وثيقة <<لبنان الآن وغدا>> والمنشورة اول الشهر الجاري، حيث تقول في الفقرة التي تحمل عنوان <<الترجمة الفورية>>: <<في بلادنا هذه، لا نخرج عادة من أزمة ما بكتلة سياسية تقوى ونسلّم بتفوّقها وبأخرى تضعف ونتقبل تهالكها، وإنما نخرج، في ما وراء المواجهة بين الكتل السياسية، بطائفة أو طوائف تقوى وبأخرى تضعف. وهو ما يجعل الغنم والغرم يشملان سواء بسواء من ينتمي من أبناء طائفة معنية إلى قوة سياسية رابحة أو خاسرة ومن لا ينتمي إلى القوة المذكورة، بأي وجه، بل أيضا من يناصبها العداء. فيفضي تحول الدولة من موقف إلى آخر في الصراع الإقليمي، مثلا، إلى تهديد ما في يد هذه الطائفة وتعزيز ما في يد تلك، لا من الحقوق فقط بل أيضا من القدرة على تجاوز الحقوق والتمتع بثمار الباطل. ويفضي هذا كله إلى استنفار جموع الطائفة خلف من ترى فيه دون القوانين حاميا للحق، وترى فيه، من وجه آخر، حاميا للباطل>>.
تحاول هذه الفقرة ان تشخص وتختصر الآلية التي يقارب فيها اللبنانيون السياسة، علما بأن المستجدات في الايام القليلة الماضية تشير الى دقتها.
ومع تسجيل إيجابية خروج بيان المطارنة وكلمة البطريرك التي تلتها، من فصام المعلن والمضمر في الخطاب والممارسة، فإنهما يمثلان شططا في مجال <<الترجمة الفورية>> للسياسات الطائفية في لبنان.

هل نتحمل الحقيقة؟

في مسرحية <<شي فاشل>> لزياد الرحباني، يطلب ممثل رأي المخرج نور في أدائه <<بصراحة>>. وبعد إلحاح الممثل، يبلغه نور بأنه لو قال رأيه <<بصراحة>> لكره الممثل كل ما يشبه الصراحة. لقد صُدِمَ المخرج بسماجة الممثل الذي كان اتفق معه على أداء دور كوميدي، فبات المخرج امام ممثل ثقيل الظل خرب ما كان يفترض ان يكون فسحة <<لتطرية>> جو المسرحية الوطنية وتجهم الاهالي بعدما سرق الغريب جرّتهم.
والتشديد على سلبية الصراحة طريقة غير مباشرة اتبعها المخرج للتحدث عن الحقيقة وإعلانها من دون الاضطرار الى الجهر بها.
وبعد اعوام قليلة يطلق زياد الرحباني ايضا اغنية عن الصراحة، يقول المغني فيها لحبيبته ممهدا للانفصال عنها بالتأكيد انه <<ما في احلى من الصراحة>>. الصراحة الاولى، في المسرحية غير مرغوبة لان البوح بها يؤدي الى رفع منسوب الفشل اذا قرر الممثل السمج المغادرة، والصراحة الثانية، في الاغنية، مطلوبة لانها تمهد لتحرر المغني من حب يجعله يشعر بعبثية وجوده حين يقول <<ما عدت أنفع لشي.. ما شي واضح، بصراحة>>.
منذ بضعة اشهر يتعرض اللبنانيون الى تحريض منظم ومركز للمطالبة بالحقيقة. وهذه درجة ارقى من الصراحة وأكثر تماسا بالواقع ويفترض ان يكون تبنيها خطوة اولى على طريق بناء او اعادة بناء او اعادة اعادة بناء... (الخ) لبنان. وتلقفت كل اطياف المعارضة الشعار ووضعت نسخة منه معدة للتصدير تعتبر انه لا مندوحة من الكشف عن الحقيقة (<<ذي تروث>> للناطقين بالانكلوساكسونية) بعد الاعوام الطويلة التي مورس فيها الكذب على المواطنين وكأن جل هؤلاء من السذّج الذين لم يكونوا يعرفون ماذا يدور حولهم. وتحولت الحقيقة الى مطلب قطاعات واسعة تعلن ان تنفيذ الشعار يعني حكما تغيير قانون الانتخابات السابق، الجائر والمزور لارادة الشعب.
لكن للحقيقة وجوها كثيرة، اغلبها بشع. من هذه الوجوه ان هناك اكثرية وأقلية في هذا البلد وأن ما يسميه بعض المعارضة <<التحالف الرباعي>>، يمثل الاكثرية وأن هذا التحالف سيحول دون تكرار ما قام به <<التحالف الثلاثي>> في انتخابات 1968، وأن التدخل الدولي قد ادى اغراضه الرئيسة وعلى من يرغب في استكمال عملية قلب الطاولة ان يعتمد على قواه الذاتية، وهذه غير كافية بكل المقاييس، برغم محاولات اعادة توتير الاجواء والشحن الطائفي باستغلال التفجيرات المتنية الكسروانية. وأن <<المظلومية>> المسيحية، وفق الرواية المنتشرة، في الاعوام الخمسة عشر الماضية، لا تكفي لتعديل موازين القوى السياسية والديموغرافية في لبنان. وأن التلويح بالانقلاب على الطائف (او بالاحرى بانقلاب مضاد) عبر رفع نغمة الحديث عن حقوق الطوائف المسيحية، قد يشجع اطرافا اخرى على اعادة النظر في كل ما يعنيه الطائف من معادلات داخلية تركن الى التوافق وليس الى التوازن، (وشتان ما بين الاثنين).
لعل السؤال الذي يجب ان يطرحه على انفسهم القائمون بحملات التخوين الجديدة الموجهة ضد <<المنقلبين على روح 14 آذار>> هو درجة تحملهم للحقيقة، فالبوح بها كاملة قد يصيبهم بما هو اسوأ مما كان ليصيب الممثل السمج في مسرحية الرحباني، لو علم بحقيقته.
إذاً، فالحقيقة والصراحة قابلتان للبوح والكتمان كما في المسرحية والاغنية المذكورتين ووفقا للظروف والمصلحة، علما ان المخرج نور في مسرحية زياد الرحباني اذ اخفى تفاهة اداء الممثل، كشف في المقابل مدى سخف التكاذب المؤسس لهذا البلد.

مكافحة تمرد

تصاعد التفجيرات في العراق يرتبط على الارجح بمحاولة لمنع الحكومة الجديدة من تثبيت وجهة جديدة في ادارة البلاد لا تأخذ في الاعتبار قوى تعتبر نفسها مهمشة. يصلح هذا التفسير لظواهر الامور او مناحيها الكبرى لكنه قد يقصر عن ايضاح الاسباب العملانية للتصعيد الاخير.
فمنذ مجرزة الحلة التي سقط فيها اكثر من مئة وعشرين قتيلا اكثرهم من المدنيين، بدا ان المسلحين باشروا هجوما مضادا يقوم على التكتيك الكلاسيكي بإنزال اكبر قدر من الخسائر المدنية وضرب الاهداف الرخوة بغية رفع مستوى الضغط الشعبي على السلطات لارغامها على تعديل سياساتها كحد ادنى، او الاطاحة بها واستبدالها بأخرى مؤيدة لصانعي التفجيرات، كحد اقصى. ومع سلسلة التفجيرات في اربيل وبغداد وغيرهما، بدا ان الهجمات قد استعادت وتيرتها الاولى التي ساد الاعتقاد ان انتخابات كانون الثاني الماضي قد خفضتها بعدما افقدتها أحد مبرراتها العملية، أي غياب السلطة المنتخبة التي تعبر عن شرعية عراقية ما.
تجوز هنا قراءة استعادية لبعض التطورات في العراق قد لا تكون على تماس مباشر بالتفجيرات الاخيرة. فقد اعطى تعيين جون نيغروبونتي سفيرا للولايات المتحدة في العراق، بين ما اعطاه، انطباعا بأن الادارة الاميركية تريد الاستفادة من خبرات هذا الدبلوماسي السابق في اميركا اللاتينية، في كيفية ادارة بلد خاضع للاحتلال ومكافحة أي نزوع تحرري او استقلالي فيه سواء من خلال المنظمات السياسية او عبر المجموعات المقاتلة. عاد نيغروبونتي الى الولايات المتحدة ليتولى منصبا في مجموعة الاجهزة الامنية الضخمة، لكن عقلية <<مكافحة التمرد>> تجذرت اكثر في العراق.
يكشف تحقيق موسع نشره في <<نيويورك تايمز ماغازين>> الصحافي بيتر ماس، تفاصيل مروعة عن <<مكافحة التمرد>> الجارية الآن في العراق. ضباط كبار من الجيش العراقي، اكثريتهم من السنة والبعثيين السابقين، يقودون الهجوم المضاد على المتمردين بواسطة القوات الخاصة في الشرطة العراقية. <<المستشار>> الاميركي الرئيسي لدى هذه القوات هو جيم ستيل الذي قاد فريق <<المستشارين>> الاميركيين في السلفادور اثناء الحرب الاهلية هناك في الثمانينيات. ويمكن لكل من يملك ذاكرة او مرجعا ان يستعيد تفاصيل تلك الحرب التي حفلت بشتى انواع الانتهاكات المنتظمة لحقوق الانسان والتصفيات الجماعية للفلاحين واهالي القرى ونشاطات <<فرق الموت>> التي اطلقتها السلطات بدعم وتأييد من ادارة الرئيس رونالد ريغان في اطار الحرب على التمدد الشيوعي في اميركا اللاتينية.
وجيم ستيل ليس <<المستشار>> الوحيد الذي يأتي من هذه الخلفية، فهناك عدد من الضباط السابقين في القوات الخاصة الاميركية الذين يرافقون وحدات الشرطة العراقية اثناء استجواب المعتقلين في مراكز يروي ماس بعض ما شاهده وسمعه في واحد منها في سامراء. ويسجل الصحافي الاميركي بقدر من الانزعاج ما يقوم به افراد القوات الخاصة في الشرطة العراقية من اعتداءت متكررة بالضرب والتعذيب والتهديد والترويع لمن يشتبهون بأنهم من المتمردين وحتى لافراد عائلاتهم الذين يشك افراد الشرطة في امتلاكهم معلومات عن اقربائهم الهاربين.
وإذ يحاول التحقيق ان يحمل الشرطة العراقية مسؤولية التعذيب الذي يصيب المشتبه بتأييدهم للمتمردين معيدا تبني هذه الاستراتيجية الوقائية الى وزير الداخلية في الحكومة السابقة، فلاح النقيب، يُغفل نقطة مركزية هي ان الصراع في العراق ليس اهليا بالكامل، أي ان الاساليب التي استخدمت في احتواء ثورات اميركا الجنوبية قد لا تنجح هنا بغض النظر عما يقوله المعتقلون في برنامج <<الارهاب في قبضة العدالة>>، وما يكشفونه من دوافع لا تتسم كلها بالسمو والروح الوطنية.

عدوى الإمساك بالحقيقة

إذا صحت التوقعات بشأن التوجهات الكبرى التي سيسير على هداها البابا بندكت السادس عشر، فان العالم الثالث سيخرج من اولويات جدول اعماله الذي سيحفل في المقابل ببنود المواجهة ضد <<الكفر الجديد>> الذي يغزو اوروبا ويبعدها عن جذورها الكنسية.
لكن هبوط العالم الثالث في قائمة الاولويات الى مراتب دنيا، لا يعني ان الكنيسة ستتراجع عن النهج الذي وضعه البابا الراحل يوحنا بولس الثاني والرافض لأي نوع من انواع التغيير في التعاليم الاجتماعية للكنيسة من منع لكل انواع تنظيم الاسرة وخصوصا الواقي الذكري ما ادى الى وفاة مئات الالاف من <<المؤمنين>> (وهو ما يحمل منتقدو الكنيسة البابا الراحل مسؤوليته المباشرة واضعين علامة استفهام كبيرة حول <<اخلاقية>> تعاليم تهتم بتماسكها الايديولوجي على حساب ارواح بشر هم من الاكثر تحملا لتبعات البؤس والفقر والمرض).
ويصعب على من استمع الى الكلمات الاولى لبندكت بعد اعتلائه السدة البابوية ان يتجاهل، حتى لو كان الموقع البابوي يحتم عليه سلوك طريق اكثر انفتاحا، ان الرجل ذاته وجه في مناسبة عيد الفصح، وقبل اقل من شهر واحد من اختياره خليفة لبطرس الرسول، رسالة بالغة القسوة والشدة يدين فيها محاولات <<الايديولوجيات الكبرى>> بناء <<كفر جديد>> من خلال السعي الى وضع الرب جانبا، ما ادى في النهاية الى إلغاء الانسان. ويصعب تصور معنى واضح لاهتمامه بتعميق الحوار مع الاديان الاخرى وهو الرافض لضم تركيا الى الاتحاد الاوروبي والداعي الى تشكيلها <<قارة ثقافية>> مع العالم العربي. هذا اضافة الى ايمانه العميق بالرقي الفكري للمسيحية الكاثوليكية ليس فقط على الاديان الاخرى بل ايضا على الكنائس المسيحية غير الكاثوليكية. اما بالنسبة الى الوحدة المسيحية فقد يكون تحقيق أي تقدم هنا اصعب والكاردينال راتزنغر (البابا بندكت السادس عشر) هو القائل بأن الكنيسة الكاثوليكية هي الوحيدة القادرة على مقاربة الحقيقة الكونية ومنددا في احدى رسائله باستخدام تعبير <<الكنائس الشقيقة>> حيث لا اشقاء لكنيسة روما بل ابناء على درجات مختلفة من الهدى او الضلال.
ستجعل الخلفية المتشددة للبابا الجديد، وهو الاتي من مجمع عقيدة الايمان، أي من <<المؤسسة>> التي كانت تحمل اسم <<محاكم التفتيش>> الرهيبة وهو بالمناسبة من معارضي تقديم أي اعتذار من الكنيسة الى البشر، فالكنيسة المعصومة تستغفر الله وحده، مهما اخطأت ، من العسير على دعاة منح البابا فرصة جديدة، ان يأملوا في نجاح يذكر، وسط توقعات متزايدة في انه لن يتخلى عن معاركه الايديولوجية.
ووفق احد مراقبي الشأن الفاتيكاني (رئيس تحرير مجلة <<غوليا>> الكاثوليكية، كريتيان تيرا) فان البابا الجديد متشائم تماما بشأن مستقبل الانسان وسيستدعي الى نجدته في معركته المقبلة ضد الحداثة، مثقفين كالفيلسوف الالماني يورغن هابرماس والمفكر الاميركي فرانسيس فوكوياما، اللذين سيقدمان مع غيرهما كل المبررات الضرورية للحيلولة دون ادخال أي تغيير على الخط المجتمعي للكنيسة.
ربما دفعت مواقف الكردينال الالماني المتشدد، امام مسجد باريس دليل بوبكر الى اعلان تمنيه في ان <<ينسى البابا الجديد النزعة المحافظة للكاردينال راتزنغر>>، مع العلم ان العالم العربي قد لا يكون معنيا كثيرا بالمواجهات الايديولوجية التي اهتم بها بندكت السادس عشر قبل تنصيبه، الا من ناحية قد لا تبدو واحدة تقوم على ان أي زيادة في جرعات المحافظة والتشدد في أي من المراكز السياسية والروحية الكبرى، تنتقل بما يشبه العدوى الى المراكز الاخرى. فيبرز هنا مجال للتساؤل عما سيكون عليه الحال في عالم يتساكن فيه بابا من النوع الذي اسلفت الاشارة اليه ورئيس اميركي من النوع القابع في البيت الابيض، والاثنان ممسكان بجوهر الحقيقة ومغزاها. تجربة يوحنا بولس الثاني مع رونالد ريغان تحضر بقوة هنا.

الشهيد الأخير

لنصلّ لراحة نفس باسل فليحان ولنأمل ان يكون هذا النائب الشاب والخبير الاقتصادي اللامع الممثل لجيل كامل من اللبنانيين، الشهيد الاخير الذي يدفعه شعب لبنان ثمنا لسلمه الاهلي.
غاب امس الجسد المعذب لباسل فليحان، على امل ان تبقى روحه المتعالية واندفاعه في خدمة وطنه. ولعلها سخرية الاقدار تلك التي حكمت ان يكون واحد من ابعد الناس عن العنف وأهله ضحية لجريمة على هذه الدرجة من العنف والقسوة، لكنها سخرية عايشها اللبنانيون دهرا فلم تزدهم إلا حزنا على حزن. وعلى مثل باسل فليحان لا بأس من الحزن.
ويأتي رحيل نائب بيروت في وقت يبدو فيه أن توافقا عريضا قد تبلور على الخروج من الازمة الراهنة على أساس إطلاق عملية تغيير هادئ في السلطة عناوينه تحجيم النفوذ السوري الى الحد الادنى وإجراء انتخابات نيابية تحيي هامشا ديموقراطيا في البلد من دون ان تحمل بذورا انقلابية. كانت المشاروات التي رافقت تكليف الرئيس نجيب ميقاتي تشكيل الحكومة المقبلة خلاصة هذه الأجواء التي يمكن ربطها بالعديد من اللقاءات التي عقدت خارج لبنان وانتهت الى إعادة ضبط الموقف العام وإدراجه ضمن توازنات القوى العربية والدولية الجديدة التي تراعي المعطيات الداخلية اللبنانية.
ولا حاجة الى القول ان بعض من في معارضة الحد الاقصى اصيب بالاحباط الشديد لرؤيته ان العالم العربي والغربي يرفض ان يتعامل معه إلا وفق حجمه الحقيقي لا وفق درجة ضجيجه واحتلاله للشاشات. والحجم الحقيقي تقرره الديموغرافيا والوزن الاقتصادي وتنوع الاوراق السياسية التي يمتلكها هذا الطرف او ذاك.
كان وليد جنبلاط نموذجا في دقة قراءة المعطيات العربية والدولية عندما قاد المعارضة، وهو اليوم كذلك عندما يدعو الى وضع برنامج للمستقبل يأخذ في الاعتبار الهوية العربية للبنان. لقد أدار اللعبة بحذر بالغ، على الرغم من بعض زلات اللسان التي ابدى اسفه العلني عليها، لكنه يظل في ختام كل جولة يؤكد ان <<المختارة لم تتغير>>. ويزعج جنبلاط كثيرين في الحالتين، لكنه يبدو انه وعائلة الرئيس الحريري، القوتان الوحيدتان في المعارضة اللتان لم تفقدا صلتهما بأرض الواقع، بغض النظر عما في هذا الواقع من منغصات وآلام.
إذاً، تعيد الحكومة المقبلة، اذا قيّض لها ان تتشكل، الخلاف الى مضمونه المتعلق بمستقبل لبنان الذي سترتدي الانتخابات التشريعية اهمية كبرى في اطار تحديده. لقد انتهى الوجود العسكري والمخابراتي السوري كعنصر توحيد للمعارضة، وما محاولات استحضار عناصر اخرى، تلاقيها للأسف بعض الاصوات في المخيمات الفلسطينية، إلا محاولة لإعادة عقارب الساعة الى الوراء ستمنى بالفشل الذريع. وربما يجد بعض المعارضة اليوم نفسه في موقف جهات لبنانية وسورية اسقط في يدها عندما رأت جدية قرار اسرائيل بالانسحاب من الجنوب في العام 2000، فحولت تنفيذ القرار 425 من مطلب مقدس الى <<مؤامرة اسرائيلية>> في اقل من اربع وعشرين ساعة. وها هي معارضة الحد الاقصى تبحث عن مبررات للاستمرار في نهج أثبت محدوديته على المستوى الوطني العام.
ليست وحدة المعارضة مطلبا مقدسا، فلا قداسة في التحالفات السياسية. بل ربما يتطلب خروج لبنان من ازماته المتوالية قيام غلاة المعارضة بفتح ملفاتهم كلها على النحو الذي فتحت فيه ملفات الوجود السوري.
رحم الله باسل فليحان.

على مقاعد الدراسة

إذا اجريت عملية تصنيف بسيطة لآراء التلامذة في الحرب اللبنانية والمنشورة في <<السفير>> امس، أمكن الخروج بملاحظتين رئيسيتين: الخلط الشديد في سرد الوقائع التاريخية نتيجة غياب أي تناول جدي للحرب عن المناهج التعليمية، والدقة الشديدة في مضمون ما قاله التلامذة.
بكلمات أخرى، يجب النظر الى آراء التلامذة الذين وردت كلماتهم في التحقيقات، على انها انعكاس لواقعهم الراهن على التاريخ وليس العكس. فهم ينظرون الى احداث الماضي بعيون اليوم، فيرون ان الاسباب الكبرى للمأزق السياسي اللبناني تكمن في الصراعات الطائفية التي تبرز كاعلان عن ظلم يصيب الجميع، والمفارقة ان الجميع مسؤول عنه، وفي العلاقات الملتبسة والعدائية مع الخارج (السوري والفلسطيني والاسرائيلي).
والمهم في ما قاله الفتية والفتيات هو التقييم <<النقدي>> للبيئة السياسة والاجتماعية التي افرزت الحرب، لكنه نقد تمتنع الذات عن الاستفادة منه، فينحصر في الاعتراض على ممارسات واهداف الآخر. هذا مع الاشارة الى ان المشاركين انحصروا في مدارس اسلامية وعلمانية في المنطقة ذات الغلبة المسلمة، لكن هناك ما يكفي من المبررات للاعتقاد ان تلامذة المدارس في مناطق الغلبة المسيحية يحملون <<المسطرة>> ذاتها لقياس الامور والتي تتلخص في وحدانية الرؤية الطائفية ورد كل الصراعات اليها بما فيها دور القوى الخارجية.
الاهم ان التلامذة كشفوا عن ادراك لكُنْه اللعبة السياسية اللبنانية: تنافس على حصص ومكاسب في السلطة قابل للتفجر العنيف بالاستناد الى مخزون من الاغتراب عن الآخر وكراهيته.
ما لم يقله <<رجال ونساء الغد>> الذين تستمر المراهنة عليهم منذ ان كان اجدادهم في عمر الطفولة، ومن دون نتائج باهرة حتى الآن، على ما يبدو ان هذه الصراعات تمثل آليات تنافس بين مشاريع <<افقية>> اذا جاز التعبير، أي انها تسعى الى التوسع ضمن حدود الرقعة الحالية للسلطة ومن خلال انتزاع حصص محسوبة لاصحاب المشاريع المقابلة. وينعدم في هذا النوع من الصراعات البعد العمودي المهتم بتغيير شكل الدولة وتداول السلطة فيها وتقاسم جديد لمواردها اقرب ما يكون الى العدل، بمفهومه العام.
الى جانب هاتين الملاحظتين الرئيستين، يصح تناول ملاحظات فرعية كالسهولة الشديدة التي يتناول فيها هؤلاء اللبنانيون الصغار اعمال القتل والذبح والقصف. الاستنتاج الاقرب الى الذهن ان احاديث الحرب موجودة في البيوت وملازمة للحياة الاجتماعية حتى وان غابت عن صفوف المدارس. فهذا اب مصاب يحتاج الى عمليات جراحية من جروح تركتها قذيفة، وتلك قتل مسلحون جدتها تحت عيني امها. وهذه من المسائل التي يستحيل ان تختفي من حياة العائلة وألا تنتقل الى الابناء الذين يقومون بربط مباشر بين ما يعانيه الاهل وما يرونه في محيطهم.
تكشف طريقة تناول الحرب بين ما تكشفه، عن ان اقتتالا انتهى على زغل لا بد من ان تنتقل ثقافته الى الاجيال التالية وخطابها الذي يرتكز جزء منه على تكرار ما وصله من المصادر المختلفة.
يضاف الى ذلك ان تفسيرات منفصلة عن الواقع <<كقلة الوعي>> تنتج اقتراحات حلول من نوعها، فيعود الحديث الى اهمية التربية الوطنية وكتاب التاريخ الموحد، أي الى المربع صفر في سؤال العلاقة بين السبب والنتيجة.

بعضنا أذنب أكثر من الآخر

يختفي اللبنانيون عند الحديث عن الحرب الأهلية أو يحضرون متساوين. لقد كانوا شهودا وضحايا و<<مدنيين ابرياء>>. ويذهب دعاة الموضوعية الى اعتبار <<الجميع اخطأ>> وكأن صيغة لا غالب ولا مغلوب يجب ان تطبق على المسؤولية التاريخية والسياسية والمعنوية عن اهوال الحرب، فلا يخرج طرف محلي او عربي أو دولي إلا ملوثا بذات قدر الاطراف الاخرى.
لكن بعد ثلاثين عاما من بداية الحرب، تعود اصوات الى الارتفاع بالنغمات ذاتها التي سبقت ذلك الثالث عشر من نيسان: الطوائف الخائفة من تجاوزات الغرباء. الأمن الذاتي. الفدرالية كحل وحيد للمعضلة اللبنانية. لقد أطنب اكاديميون معروفون في دحض مقولة السبب الداخلي للحروب اللبنانية وردوا كل الشرور التي ارتكبت على هذه الارض الى الفلسطينيين والسوريين والاسرائيليين الذين كانوا جميعا يتحركون بدوافع <<مصالح>> غامضة وسديمية تمتد من التنافس بين فصائل منظمة التحرير الى المواجهة بين المعسكرين الشرقي والغربي. واللبنانيون يتجملون بكل صبر الارض منتظرين انتهاء هذا الكابوس الذي وجدوه بين ظهرانيهم عندما استيقظوا من حلمهم الذي صاغوه استقلالا وازدهارا، على ضجيج <<الغرباء>>.
لا يصح انتظار ان يقول التاريخ كلمته فيحدد من اذنب بحق بلده ومن استقدم الاجنبي ومن تفنن في تدمير الدولة والمجتمع. فكلمات التاريخ متناقضة ومتباينة. ولكل من العشائر اللبنانية تاريخه الشفهي والمكتوب يتباهى به على العالمين، من دون ان يقلقه شأن من نوع درجة التطابق مع الواقع او مع تواريخ الآخرين.
لكن ذلك لا ينفي ان بعض اللبنانيين أذنب اكثر من البعض الآخر. والديموقراطية التوافقية لا تستقيم في حسابات التاريخ الذي يفضل عادة قراءات في الكم والنوع.
وتفاديا للسقوط في محاسبة مقلوبة تلقي كل اللوم على عشائر وتمنح الاخرى براءة تامة، لا مفر من الاعتراف في ان العشائر وهي السمة الاجتماعية الابرز للمجموعات اللبنانية حتى وإن اتخذت اسماء طوائف ومذاهب تتبادل الغزو والخطف وتخفض جناح الذل للاقوى والاشرس من بينها او من خارجها. ما يقود الى الاستنتاج ان تقاسم الذنب بين العشائر المتحدة عن مسؤولية الحرب في لبنان، لا يقوم الا بتحديد حجم العشيرة، التي تقاتل كلها وتسالم كلها وذلك قبل ان يكتشف ماو تسي تونغ مبدأ حرب الشعب.
ولا تعترف العشائر بالتحالفات المبدئية والاستراتيجية والاصطفافات الطبقية، بل برابطة العصبية والدم والنسب، تؤججها في ساحة القتال يوم الحرب وتنقلها الى مؤسسات الدولة يوم السلام.
وفيما لن يتحرج البعض من القول ان الغرباء <<دخلوها كأنهم قطع الليل>>، على غرار وصف ابن الرومي دخول الزنج الى البصرة، فعملوا في لبنان نهبا وذبحا، وفيما يتقاذف اللبنانيون كرة المسؤولية عن الادوار والحروب التي شنها الآخرون على ارضهم، يصعب فهم الطريقة التي وقع فيها لبنان في ازماته من دون تناول دقيق لعقلية العشيرة ونمط تفكيرها، حتى لو كانت مموهة كحزب علماني او كحاملة لراية الحداثة.
بعض اللبنانيين اذنب تجاه وطنه اكثر من الآخر. لكنهم يتساوون في شيء آخر، في انتمائهم الى العشيرة في أكثر معانيها اغترابا عن الدولة.

الحرب... كرنفالنا الوطني

يكذب اللبنانيون عندما يقولون انهم اقتيدوا الى الحرب بغير ارادتهم او انهم سيقوا اليها سوق النعاج. لقد كانت مواكب المقاتلين تتوجه الى سوح الوغى يرافقها نثر الارز ورش العطور من المواطنين المتلهفين الى النصر.
ومن يراجع تفاصيل مذابح مشهودة (وبعضها الف مرتكبوها كتبا باللغات الاجنبية يسردون فيها ما فعلوا او افتعلوا، مؤكدين انهم هم الضحايا)، يجد ان مجرمي الحرب هؤلاء آخر من تنطبق عليهم صفة المجرم اذا كان تعريف الجريمة يقوم على اعتبارها انتهاكا لقواعد سلوك مجتمع بشري. لقد كان منفذو المجازر يقومون بأعمالهم وسط احتضان شعبي لا لبس فيه، واحيانا بتكليف وتفويض وتشريع من رجل الدين او من يساويه مرتبة في الحزب او التنظيم.
ومن يتذكر استعراضات السحل في الشوارع وتجميع اشلاء القتلى من <<الاغيار>> ورصفها على سطوح السيارات وسط الاهازيج وحوربة العامة، يدرك ان الحرب لم تكن الا احتفالا كبيرا ودمويا بتكريس هويات الطوائف والعشائر المتناحرة. كانت كرنفالا للدم واللحم المحروق، لم يتوان فيه اللبنانيون عن استحضار كل ارث الاحقاد والضغائن التي يمكن ان يكنها انسان الى انسان. كانت الموسيقى صاخبة والجمع هائجا واللاعبون عاجزين عن تلبية نزوات جمهور لا يرتوي من الدماء والدمار والقتل.
هكذا دخل اللبنانيون الحرب. اما كيف خرجوا منها فمسألة اخرى. لقد اكتشفوا الضحية فيهم بعدما دخلت مصطلحات جديدة قاموسهم الاهلي. مصطلحات <<التوازنات الدولية>> و<<الارادات الاقليمية>> و<<رغبات الخارج>> الذي لم ير فائدة له في التدخل عندما كانت الحرب مهرجانا للكراهية المحلية والعشائرية، لكنه استفاق على ضرورة لجمها عندما تبين انها قد تؤسس لتغيير غير مدروس كفاية في موازين القوى. <<الغرباء>>، على اختلافهم وتباين ادوارهم، مكروهون مرتين: مرة لانهم شوهوا الطبيعة الاحتفالية للمذبحة اللبنانية، ومرة لانهم جلبوا الى الوطن حساباتهم العقلانية الباردة غير الملائمة لمناخ البلاد وتراثها.
ان قراءة جديدة ليوميات الحرب اللبنانية لا تأخذ في الاعتبار الطابع <<الفرح>> للتذابح الاهلي، تبقى مجتزأة وناقصة. لقد كان اللبنانيون فرحين في الحرب ومستعدين لتحمل المزيد من الصعوبات الآنية، كالمعاناة في تدبير اوجه الحياة اليومية او الصبر على خسائر بشرية لا بد منها، من اجل انتصار الطائفة والعشيرة والحزب و<<العقيدة>>.
وبعد انتهاء الحرب، اضاف اللبنانيون سببا ثالثا الى اسباب كراهيتهم <<للخارج>>. لقد صودر انتصارهم ووُظف في آلية غير محلية الصنع لتطويعهم وتسييرهم. بهذا المعنى، يكون مطلب <<السيادة>> تعبيرا عن حرقة الشعور بخسارة النصر الموعود الذي لا يتم الا بتدمير <<الاغيار>> ومَحقهم. وهو ما اقدم <<الخارج>> على حرمان جميع اللبنانيين منه.
كانت الحرب ضرورة اجتماعية استجاب اللبنانيون إليها بفرح الاستجابة الى النداءات السماوية. لقد ذهبوا الى الحرب مفتوحي العيون ومدركين ما ينتظرهم وما ينتظر عدوهم منهم. لكنهم فوجئوا بطول مدة الحرب وتعقيدها، وهو، وحده، ما يلام الخارج عليه.
فالجواب عن سؤال عودة الحرب او عدم عودتها، لا يحتسب في موازين التدخل الخارجي وحدها، بل في درجة الفرح الذي يشعر به أي شاب توضع بين يديه بندقية جديدة. اما العدو فجاهز دائما.

الأحياء والأموات

ينصرف الموتى من هذه الدنيا تاركين وراءهم هموم الفانين وأفراحهم. لكنهم يخلفون في الارض آثاراً وأبناء من نسلهم وأعمالاً تظل حية بعد وفاتهم. والموتى كما الاحياء، ليسوا متساوين. فمنهم من يحيطه الموت بهالة من الحصانة تلامس حدود القداسة ومنهم من لا يشكل غيابه فارقاً عن حضوره.
نظرة على ما تردده وسائل الاعلام عن كبار الراحلين يوحي بأنهم لم يكونوا من جنس البشر، يخطئون ويرتكبون وينغمسون في سياسات صاغها أناس من لحم ودم لمصلحتهم وعلى حساب آخرين من لحم ودم ايضا. ينفي الموت، بهذا المعنى السياسية أو يحولها الى دين يضع من بقي حياً بعد رحيل صاحب الموقع المؤثر في واحدة من خانتين: الايمان وما يستتبعه من تسليم بكمال ما أنجزه الراحل أثناء إقامته بين ظهراني الناس العاديين أو الكفر وما يلازمه من نبذ واتهام وإبعاد.
يتجاوز هذا الواقع وهذه الممارسة التقليد الداعي الى ذكر محاسن الموتى والرأفة بالتعامل مع إرثهم المعنوي، والعبارة الشهيرة عن <<إمساك الميت بتلابيب الحي>> ودفع الميت للحي الى تنفيذ مشيئته من وراء القبر، الى ما قد يكون حاجة إنسانية متزايدة الى التسامي والبحث عن الكمال المفقود في العالم المعاصر وما يجلبه ذلك من بعض المبالغات في إضفاء الصفات الايجابية على الراحلين، الذين كانوا موضع خلاف أثناء حياتهم.
ولعل تاريخ الفرق الاسلامية والكنائس المسيحية، وخصوصا تلك الواقعة على الهوامش، غني بالدلالات في هذا السياق حيث يمثل رفع بعض هذه الفرق والكنائس لقادتها الى مصاف الآلهة أو ما يوازيهم، محاولة على درجات متباينة من الوعي وفق كل مذهب، للتغلب على الضعف الانساني والنواقص البشرية المشهودة. وربما يكون تاريخ فرقة معينة (الاسماعيلية) نموذجياً في هذا السياق خصوصاً في مفهوم <<تقدم الاولياء على الانبياء>> الذي تبنته فرق ومذاهب اخرى تتشارك في الارضية العرفانية التي برزت كنوع من الرد على إفراط اتجاهات دينية اخرى في التشديد على محدودية قدرات الانسان.
ومن المهم التأكيد على ان هذا المنحى لم يتضاءل في العصر الحديث. فخلافاً لأفكار دعاة التنوير التقليديين المعتقدين بتقلص حيز الغيب مع تقدم العلوم الحديثة واكتشافاتها وانتقال إنجازتها الى المجتمع والحياة اليومية للبشر، فإن العكس هو الصحيح.
فوفاة كل صاحب رؤية في هذا العالم تتحول الى مناسبة لاستعراض الحاجة الى الروحانيات والغيبيات بصورة تستدعي التأمل والتوقف الطويل.
والسؤال الاهم الذي تثيره مناسبات من هذا النوع يتلخص في مدى صواب الحياد إزاء خروج مساحات جديدة من نطاق النقاش الضروري للاحياء كي يحسنوا ظروف حياتهم. ينطبق هذا الامر على إرث البابا يوحنا بولس الثاني وعلى ما تركته الام تريزا إضافة الى نماذج عربية ومحلية قديمة وحديثة.
فباستثناء مقالات خجولة (في الصحافة الالمانية خصوصا)، تحفظ فيها أصحابها على النهج الاجتماعي للبابا الراحل، يبدو ان هناك إجماعاً عالمياً على تأييد ما قام به أثناء المراحل الاخيرة للحرب الباردة. في حين أن صداقات الام تيريزا مع شخصيات من نوع الدكتاتور الستاليني انور خوجة والدكتاتور الفاشي اوغستو بينوشيه، ما زالت بعيدة عن النقاش تماما كالعديد من أوجه سلوكها تجاه الفقراء.
يحتاج الانسان المعاصر الى قديسيه وأوليائه الطاهرين. وتقدم لهم وسائل الاعلام الحديثة ما يحتاج اليه من نماذج تطمئنه الى أن حياته على هذه الارض ليست شروراً ومآسيَ كلها. فما على المشاهد إلا الاختيار.

كيف فضحنا الكعك

في منتصف الطريق بين العمل والمنزل، يقع فرن للكعك ربما يكون الافضل في هذا الجزء من بيروت. اتوقف احيانا في طريق العودة للشراء منه كما يصادف مروري اليومي من هناك توقف اعداد من السيارات للغرض ذاته. وبما انني لا احمل جهازا لفحص الدم والهوية، اعتقد ووفقا للهجة العمال في الفرن، انهم مزيج من اللبنانيين والسوريين.
عند اقتراب ساعات العصر، تتجمع امام الفرن اشكال شتى من الدراجات الهوائية وعربات الاطفال المعدلة، لتحمل الواحا يوضع الكعك عليها ليسير به الباعة قبيل الغروب عند الكورنيش البحري وفي شوارع المدينة لتلبية تقليد راسخ هو <<العصرونية>>، أي تلك الوجبة الخفيفة بين الغداء والعشاء. اكثرية الباعة سوريون، بلا ريب، وهناك نوع من الاتفاق بينهم وبين اصحاب الفرن على طريقة شراء الكعك ودفع ثمنه، يخرج الطرفان منه بقروش قليلة لا تكفي الا ليوم جديد من صنع الكعك وبيعه. فالفرن كما يبدو من شكله الخارجي ومن قلة محتوياته، يكاد يشي برقة حالة الناس الذين يعتاشون منه.
واذا مررت متأخرا في ليالي الصيف، اجد غالبا العمال نائمين على الدرج الملاصق للفرن فيما يهدر صوت قوي لآلة لعلها <<القطاعة>> التي تقسم العجين الى كتل صغيرة.
وهذا مشهد اراه منذ انتقلت للسكن في هذا الحي، ولسبب ما، اشعر بارتياح كبير لوجود هذا الفرن وهؤلاء الباعة، ربما كأحد مظاهر الالفة المفقودة مع الامكنة والناس، في بيروت ما بعد الحرب الاهلية. وربما لأن الفرن بعماله يشبه فرنا آخر كان قريبا من بيت اهلي، وكانت رائحة خبزه الطازج اول ما كنا نتنسمه في الصباح.
المفاجأة هي ان بعض اللبنانيين اختاروا الكعك كرمز لما يقولون انه احتلال سوري لبلدهم. لقد رُفع الكعك في التظاهرات <<الوطنية الحرة>> وشُهّر به وعومل كأنه من الرجس والنجاسة. وجرت في احدى خيام المعتصمين في ساحة الشهداء حملة ترويجية لكعك <<100 في المئة لبناني>> وكان شعار الحملة رُسم على شكل العلم اللبناني كتب في مكان الارزة <<ملح لبناني، خميرة لبنانية، طحين لبناني>>. لن اناقش صحة انتماء مكونات الكعك الى لبنان مع قناعتي بأنها جميعها مستوردة، بل اقول انني اصبت بالذعر لدى مشاهدتي ابناء بلدي يحتفلون بأكل الكعك اللبناني وكأنهم يشاركون في حلقة سحر اسود فودوو يلتهمون فيها دمية تمثل عدوهم، مدعين ان جميع باعة الكعك من عناصر الاستخبارات الاجنبية، السورية.
ولا اعرف، بصفتي من اشد مؤيدي الكعك وتناوله عصرا، كيف تحول الكعك الى احد مكونات الصراع بين السيادة والوصاية، ولا استطيع ان استوعب معنى توجيه الاهانات المجانية للبنانيين وسوريين يمارسون هذه المهنة بيع الكعك وصنعه وهي برأيي، اسمى من كثير ممن يدعون <<الحضارة>> و<<النوعية>>. ففي هذا التقليد شيء من البساطة والعادية الضرورية كي يكون كل شعب على وفاق وسلام مع نفسه اولا.
ولا استطيع ان اتخيل معنى تحول الكعك الى عنوان لملحمة نشوء الوطنية اللبنانية الجديدة. ولعلة ما، يحضر الى ذهني كلما سمعت شيئا عن ترويج سلعة لبنانية، خضارا وفاكهة وكعكا، عنوان رواية اكتسب بطلها بافل كورتشاغين سمات اسطورية في تاريخ الاتحاد السوفياتي، عنيت <<كيف سقينا الفولاذ>>، التي تلخص كفاح الشعب السوفياتي لبناء وطنه، وبغض النظر، اللاحقة عن فقدان الديموقراطية وخسارة الحرية.
فهل لنا ان نتخيل كلبنانيين معنى ان تكون ملحمتنا الوطنية هي في فضح الكعك وعلاقته بالوصاية؟

لعالم أكثر إنسانية

من الصحف

1