الحزب الشيوعي: لماذا يجري استهدافه؟

ألبير فرحات

2005/05/19

<<الحجر الذي أهمله البناؤون،
يكون حجر الزاوية>> (المزامير)
يتعرض الحزب الشيوعي اللبناني في الفترة الاخيرة لحملة مركّزة تستهدف هويته الفكرية الاجتماعية وسياسته المستقلة وحضوره الوطني. وفي الوقت الذي تلقي فيه بعض وسائل الاعلام حرماً على نشاطه، فإنها تفسح المجال واسعاً لكل من يريد النيل منه، وخصوصاً لأولئك الذين لديهم حسابات مفتوحة معه، ولمن ارتد عنه الى مواقف ليبيرالية جديدة.
وفي حين اننا نعتبر أن الحزب ليس فوق النقد وانه ليس ولم يكن يوماً معصوماً، وان من حق أي كان أن يختار الطريق التي يريد السير عليها، والتي يعتقد انها الاجدى، إلا أننا نرى أن السعي الى تفكيك أوصال الحزب هو أمر يندرج في سياق المساعي الجارية من أجل تفكيك الكيان ومؤسسات الدولة والاحزاب السياسية ذات التوجه اللاطائفي والمؤهلة لتدعيم وحدة البلد أرضاً وشعباً.
ويستند قولنا هذا الى عدة أدلة ليس أقلها ان مساعي التفكيك هذه وتلك تستظل بنفس الشعارات: أي شعارات <<زعزعة الاستقرار البناءة>> و<<الاختراق النظيف>> و<<الديموقراطية الرخوة>> التي ينادي بها المحافظون الجدد واليسار النيو ليبيرالي.
ومن وجوه الترجمة العملية لهذه الشعارات إضفاء صفة الانغلاق على سعي الحزب لكي ينأى بنفسه عن المواقف التضليلية والشعبوية لأطراف النظام، وعلى قول الحزب بأن المطلوب مواجهته ليس فقط هذا أو ذاك من أشكال تجلّي الطائفية بل اولا تلك <<الدولة الطائفية>> التي أسهب الشهيد مهدي عامل في تحليل مقدماتها ودورها بوصفها الاداة التي تعيد إنتاج تلك <<الآفة>> التي تشكل العائق الاكبر أمام التقدم.
ويتبنى دعاة التصفية هؤلاء، ولو على طريقتهم، الافكار القائلة ب<<نهاية الايديولوجيات>> و<<نهاية التاريخ>> و<<نهاية الصراع الطبقي>>، ويعتبرون ان الزمن لم يعد زمن الاحزاب السياسية <<التوتاليتارية في جوهرها>> بل زمن هيئات المجتمع المدني التي تضمن تلك الديموقراطية الرخوة التي ينادون بها. كما انهم ينعتون بالمغامرة والإرهاب المناداة بمشروعية مقاومة العنف الامبريالي والطبقي والعنصري بالعنف الثوري الذي كرسه إعلان حقوق الانسان والمواطن الذي أصدرته الثورة الفرنسية الكبرى والاعلان العالمي لحقوق الانسان الذي تبنته منظمة الامم المتحدة، وينادون ب<<النضال السياسي الحضاري>> كأسلوب وحيد للنضال السياسي (انظر مقالة سناء ابو شقرا ما قبل الاخيرة في جريدة <<السفير>>).
وفي الوقت الذي يميز فيه الحزب بين المركزية الديموقراطية وبين الاخطاء التي ارتكبت باسمها، بل ولا يقول بأنها الشكل المثالي للتنظيم، فإن الهجوم الذي تتعرض له هذه الموضوعة تستهدف تحويل الحزب الى <<كونفدرالية هيئات محلية>> تتساوق مع تلك الكونفدرالية الطائفية التي يسعى البعض الى إقامتها في لبنان تحت شعار اللامركزية الادارية التي هي شأن آخر تماماً. ومن الطريف ان البعض من أولئك الذين ينادون بذلك، والذين نادوا أثناء التحضير للمؤتمر التاسع بتبني النسبية في الانتخابات الى الهيئات الحزبية قد أنشأوا <<حركة>> قانونها التزكية والتعيين...
ولا ينفصل استهداف الحزب الشيوعي اللبناني في رأينا عن الاستهداف الذي تتعرض له على الصعيد الدولي تجربة ثورة اكتوبر الاشتراكية العظمى، وهو ذلك الاستهداف الذي يقف وراءه التروتسكيون السابقون الذي تحولوا محافظين جدداً. انهم يعرفون تماما الصلة بين النظرية والممارسة في وجهيها السلبي والايجابي، وكيف ان مسار التاريخ ليس مساراً مستقيماً متصاعداً، وانه ليس مجرد مسار موضوعي لا يلعب فيه الناس وأفكارهم وتجاربهم دوراً مميزاً. بالتالي فإن المطلوب هو منع الراجعة النقدية لتلك التجربة عن طريق تهشيمها كي لا يعاود أصحابها الكرة مرة اخرى وبنجاح أكبر. انهم يتجاهلون على سبيل المثال ان البوربون قد عادوا الى حكم فرنسا بعد سنوات قصيرة على انتصار ثورة 1789، الامر الذي لم يؤدي الى وأد أفكار تلك التي لا تزال حتى اليوم أحد مصادر الالهام الكبيرة لنضال الشعوب من أجل الحرية والمساواة والاخاء.
وانسياقاً مع ما هو مطروح على صعيد العولمة الليبرالية من مقولات تنادي ب<<تجاوز السيادة الوطنية>>، تتعرض للهجوم سياسة الحزب المنادية بالارتقاء بالنضال التحرري للشعوب الى ذرى أعلى في هذه الظروف الدولية الجديدة التي يكمن جديدها أساساً في ازدياد عدوانية الامبريالية، وهي العدوانية التي تعبر في آن عن قوتها ومكمن ضعفها.
وليس من قبيل الصدفة أن تكون تلك <<القيادة التاريخية>> السابقة هي اليوم رأس الحربة في الهجوم على الحزب وفي المناداة ب<<التحديث>>. أولئك الذين هربوا من إجراء مراجعة نقدية للسياسات التي أملوها على الحزب من خارج ومن فوق هيئاته الشرعية، والذين تهربوا من المحاسبة وأداء الحساب.
إننا لا نريد التركيز على أخطاء الماضي بحيث تغيب تلك الصفحات الوضاءة من تاريخ الحزب، ولكن لا يجوز لنا التغافل عن ممارسات تلك <<القيادة التاريخية>> التي لم تتمكن في أحيان كثيرة من النأي بنفسها عن ممارسات وأخلاقيات الطبقة السياسية التي أثرت على حساب من دفعت بهم الى التضحية بحياتهم، ولم تتورع عن ممارسة <<اللصوصية السياسية>> إزاء المال العام وممتلكات أحزابها، والتي لا يزال البعض من أفرادها يتمتع بامتيازات غير شرعية بل الذين انغمسوا في جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية لا بد من محاسبتهم عليها في جرائم لا يمر عليها الزمن وغير قابلة للعفو وفقاً للاصول الجزائية الدولية والداخلية معاً. انه ذلك الجانب الاخلاقي في السياسة وهو الجانب الذي ضرب به البعض من <<القادة التاريخيين>> وصولا الى قيامهم ب<<تأجير>> بعض عمليات المقاومة لبعض الانظمة العربية، مما أفقدها الكثير من حصانتها ونقاوتها وأسهم في وضعها خارج الساحة.
على أن نقد الماضي يبقى قاصراً بل يمكن له أن يتحول الى بكائية عاشورية ما لم تؤخذ العبرة منه ويعاد البناء تبعاً لذلك. لم يعد الحزب الشيوعي اللبناني قادراً على التصدي للاستهدافات الموجهة ضده بمجرد قيامه بعمليات ترميم جزئية هنا أو هناك. فهو قد بات بحاجة الى إعادة بناء من خلال التمسك بما هو مبدئي ومن خلال تجاوز تجربته الى ما هو أكثر فعالية، لكي يصبح فعلاً حجر الزاوية في بناء المستقبل الديموقراطي لوطننا.
() محام.

لعالم أكثر إنسانية

من الصحف

1