تأمّلات سينمائية في تراجيديا فلسطينية!..
بشار إبراهيم
المستقبل - الاحد 7 تشرين الثاني 2004 - العدد 1744 - نوافذ 2 - صفحة 22
وفق المتعارف العربي والفلسطيني، بل والعالمي، هو عربي فلسطيني.. ووفق المتعارف اليهودي، فقط، هو يهودي.. وفي الحالتين هو إنسان مبدع..
من ناحية الأب، ينتمي المخرج جوليانو مير خميس، إلى فلسطينيي العام 1948، إذ إن والده هو (صليبا خميس)، العربي الفلسطيني.. وبالتالي فجوليانو لا يختلف، من هذه الناحية، بانتمائه وبوضعيته القانونية عن وضع مليون وربع المليون من العرب الفلسطينيين الباقين في وطنهم، في حيفا وعكا ويافا، في الجليل والمثلث والنقب، كما في مدينة الناصرة، البلدة الأصلية لـ(صليبا خميس) التي عاش ومات فيها.
بينما جوليانو مير خميس، من جهة أخرى، هو يهودي، أيضاً، إذ إن والدته هي آرنا مير، اليهودية التي ولدت في مستوطنة روشبينا (بالقرب من قرية الجاعونة، في قضاء صفد)، قبل أن تولد دولة إسرائيل.. وكان أن انضمت آرنا في شبابها إلى قوات (البالماخ) لتشارك في صناعة نكبة الفلسطينيين عام 1948، قبل أن تنتبه إلى أنها تقف في الموقع الخاطئ..
"لم أجنِ على أحد، ولم أخطئ في حق أحد.. لكن انضمامي إلى البلماخ، عندما كنت في الثامنة عشرة، كان خطأي الأكبر.. ماذا أفعل؟.. طيش الشباب!.. نعم.."، تقول آرنا.. فكان أن عملت على إعادة ترتيب أفكارها وحياتها.. فتخلَّت عن صهيونيتها، وانتمت إلى المنكوبين الفلسطينيين، من خلال الانتساب إلى الحزب الشيوعي الإسرائيلي، الذي كان (على الرغم من كل نواقصه) المجال الحزبي السياسي الوحيد المتاح، حينذاك، للدفاع عمَّا تبقى من حقوق للأقلية العربية الفلسطينية الباقية على أرض فلسطين، فانتسبت إليه فئات واسعة من النخب العربية الفلسطينية من أهالي 48، ومجموعات من النخب اليهودية.
ولعل آرنا استكملت الانتماء إلى الفلسطينيين من خلال الارتباط بالزواج من رفيقها في الحزب، صليبا خميس، العربي، الفلسطيني، المسيحي، المناضل الشيوعي، المثقف والصحافي.. وأنجبت منه ولدين هما (جوليانو وسبارتاكوس)..
زحزحة التباس الهوية..
في إطار هذا الاختلاط في الهوية، بين البعد القومي (العربي الفلسطيني)، والبعدين الدينيين (مسيحية الأب، ويهودية الأم)، سيكتفي البعض بالقول عن جوليانو مير خميس: إنه مخرج إسرائيلي.. أو مخرج فلسطيني إسرائيلي!.. ليغدو هذا الرجل نموذجاً فذاً واستثنائياً، ومعقداً، في مجال الهوية، لا يكاد يفضّ التباسات تعقيداتها سوى أفكاره ذاتها، ومسيرة حياته، ومواقفه العملية، وحقيقة انتمائه، تلك التي يمكن اعتبار فيلمه "أولاد آرنا" بياناً واضحاً عنها.
قبل الحديث عن الفيلم، لا بد من الانتباه إلى دلالات إصرار جوليانو على إدخال اسم (خميس) على اسم والدته. لقد اعترض على تسمية والدته باسم آرنا مير فقط.. وصرخ قائلاً: "آرنا مير خميس".. "آرنا مير خميس".. حدث هذا أثناء التقديم لعرض فيلمه في سينماتيك حيفا.. قبل أسابيع قليلة.
"دائماً حاولت جاهداً إدخال كلمة خميس إلى اسم عائلتي، وعائلة أمي.. شعرت بحاجة له، خاصة بعد وفاة والدي صليبا خميس"، يقول جوليانو. إنه يدرك أي تعقيد في الهوية وهبته إياه الأقدار، وهو بالتالي يغتنم كل فرصة لفضّ هذا الالتباس، دون مواربة، أو حذر.. وسنجد أن الأمر ذاته سيكون موضوعاً للحديث في ثنايا الفيلم، لأكثر من مرة، وعلى لسان أكثر من شخصية.
آرنا من ناحيتها، اليهودية المعتقد، تحوَّلت من الصهيونية إلى الشيوعية، ثم إلى معطى إنساني عام، قادر على تلمس آلام الضحايا، والتضامن معهم، والعمل على انتشالهم من ربقة الكارثة. بل إنها لم تكتف بالتضامن الوجداني والعاطفي، فانخرطت في عمل ميداني في هذا السياق.. ومن هنا فإن آرنا أخذت ترجّ سكينة الهوية، وسكونها، لتثير فيها الكثير مما يمكن أن يُراقب بدقة، ويؤخذ بعناية، فقد غدت بعملها فلسطينية بامتياز، طالما أن هناك الكثيرين من العرب والفلسطينيين، ممن يرون في الهوية الفلسطينية هوية نضالية.
انتقلت الشرارة ببساطة إلى أهالي مخيم جنين، حتى إننا نرى امرأة فلسطينية ترتدي الحجاب تترحم على آرنا، تماماً كما تفعل على مسلمة متدينة، ونسمع أولاد المخيم يعتبرون آرنا بمثابة الأم (بل وأعز) ويرون في جوليانو ما يشبه الأخ أو الأب.
سريعاً، ينتهي أهالي المخيم من أسئلة الأنا والآخر، وإشكالية التمييز بين اليهودي والإسرائيلي، والصهيوني المحتل.. وسنراهم يميّزون بين عدوهم الحقيقي، ووهم العدو الذي اعتقدوه.. حتى إن بعض الأولاد في الفيلم يصارحون جوليانو بأنهم كانوا يعتقدونه جاسوساً.. وكانوا يرتابون منه، ومن والدته.. قبل أن يتلمسوا الحقيقة.
ولكن يبقى الطريف في الأمر، أن من الأولاد من يقول عن آرنا: (كنا نعتقدها يهودية)!.. كأنما هم يحاولون أن يغسلوا آرنا من يهوديتها، بدل أن يخلصوا الديانة اليهودية ذاتها من إثم الصهيونية، وارتكاباتها باسم الدين اليهودي.. أو لا يصدقون أن يهودية يمكن لها أن تفعل ما فعلته آرنا.
دير بالك على أخواتك.. وصية أم..
يخرج جوليانو مير خميس فيلمه "أولاد آرنا"، مكثِّفاً لحياة، وطقوس عمل، ووقائع، امتدت لما يقرب من 15 سنة. بدأت عام 1989، عندما حضرت والدته (آرنا) إلى مخيم جنين، خلال فعاليات الانتفاضة الفلسطينية الشعبية الكبرى، التي اندلعت نهاية العام 1987، حيث انعقد العزم لدى آرنا للقيام بما يمكنها من أجل خدمة أطفال مخيمات اللاجئين الفلسطينيين، وما مخيم جنين إلا نموذج لذلك. وينتهي الفيلم ونحن في العام 2004، على الرغم من أن آرنا توفيت في العام 1995، إثر إصابتها بمرض السرطان.. وبذلك نجد أن جوليانو قد التزم وصية والدته بعدم صناعة فيلم عنها، هي شخصياً، فكان أن صنع فيلماً عن أولادها.. أولاد آرنا.. وليس عنها هي.
"دير بالك على أخواتك"
هذه هي الوصية الأخيرة التي وضعتها آرنا بين يدي ابنها جوليانو.. كان ذلك قبيل وفاتها في العام 1995,. و"أخواتك" الذين قصدتهم آرنا، دون شك، كانوا أطفال مخيم جنين.. ولعل السنوات مضت مترعة بالصدمة لجوليانو الذي فقد والدته، تلك المرأة التي كانت بالنسبة إليه الأم والصديقة والقدوة النموذج.. كما تتالت تلك السنوات بأسئلتها عن الطريقة، التي يمكن لجوليانو أن يواصل مشروع والدته وينفّذ وصيتها.
ومشروع آرنا يمكن اختصاره بأنها رهنت حياتها لتدريس وتعليم وتدريب وتأهيل مجموعات من أطفال مخيم جنين، من خلال إنشائها لما أسمته "بيت الطفولة". وإذ حصلت أرنا على جائزة نوبل البديلة، فقد استثمرت مبلغ الخمسين ألف دولار، قيمة الجائزة، لبناء مسرح داخل المخيم. وعملت بمساعدة ابنها جوليانو، الفنان والممثل، على تشكيل فرقة مسرحية من أطفال مخيم جنين، وسنراها في ثنايا الفيلم تتدرب وتحضّر لعرض مسرحي، بعض ما فيه ينتمي إلى حكايات ألف ليلة وليلة، وبعضه هو مأخوذ عن نص لغسان كنفاني.
الكاميرا الحاضرة في كل تفاصيل ذاك المشروع، صوَّرت آرنا، وأولادها الأطفال، في الكثير من المشاهد الدالة والمعبرة، منها تلك التي تظهر آرنا قبل أن يغزوها المرض، والأطفال الصغار وهم يعيشون حياتهم، ويتدربون على يديها، ويتعلمون كيفية التعبير عمّا في دواخلهم من كراهية للاحتلال، وغضب من ممارسات جنده. وهي تفسح المجال لإخراج كل ذلك، والتنفيس عنه، بطرق فنية إبداعية، وتربوية علمية، بدءاً بالرسم والتمثيل المسرحي وصولاً إلى الغناء، وليس انتهاء بالفعل الحركي (تمزيق الورق، الضرب على جسد آرنا.. لعلها من خلال كل ذلك تنشئ أطفالاً متوازنين نفسياً وعاطفياً، قادرين على رؤية مشكلاتهم، وإدراكها، والتعامل معها، والتعبير عن الموقف تجاهها.
"الانتفاضة بالنسبة إلنا هي قيم أولية.. علم وحرية.."، تقول آرنا.. وتنغمس في مشروعها من أجل خلق هذه القيم وغرسها في نفوس أولادها، من أطفال مخيم جنين.. الانتفاضة.. العلم.. الحرية.. وشعارها "لا سلام بدون حرية".
وإذ يحاصر جيش الاحتلال مخيم جنين، خلال الانتفاضة الكبرى، عند مطلع التسعينات (لاحظ أن آرنا توفيت عام 1995)، تكون آرنا واقفة عند الحواجز المنصوبة على بوابات المخيم، متلفِّعة بالكوفية الفلسطينية، تحمل يافطة تقول: "يسقط الاحتلال". تنادي وتصرخ على سائقي السيارات المتزاحمة، على الحاجز، أن يتقدموا نحو المخيم.. وأن لا يتوقفوا.
"تخافوش منهم.. زمروا.. زمروا"، تقول آرنا.. وتنبري تطلق صفيراً عالياً من بين شفتيها وأصابعها.. كأنما آرنا، في تلك اللقطات، تريد إشعال المكان ضجيجاً وصراخاً وصفيراً.. احتجاجاً على محاصرة المخيم.. ورغبة صادقة في كسر الحصار عنه.
لم تعش آرنا إلى العام 2002 لترى الاجتياح الدامي لمخيم جنين.. وما جرى لبيتها "بيت الطفولة" الذي بنته، ولا للأولاد الذين علمتهم ودرَّستهم ودربتهم. لم تعش لترى إلى أين سيذهب أولادها، أو إلى مصير سينتهون!.. جوليانو هو من سيبقى شاهداً على كل ما جرى في الفترة ما بين (1989 ـ 2002)، وهو من سيبقى، بعد ذلك، ليرى مصير الأولاد في السنوات التالية، ويسجله في فيلم رائع حقاً.
مطلع نيسان 2002، استفاق العالم على حصار واجتياح مخيم جنين، وصمت العالم أياماً طويلة بانتظار ما ستنكشف عنه!.. فكان صمود ومقاومة باسلة لمخيم لا تزيد مساحته عن كيلومتر مربع واحد، ولا يتجاوز عدد سكانه 12 ألف نسمة، وكانت مجزرة دامية من قبل جيش مدجَّج بكل أصناف الأسلحة والعتاد الثقيل.. جيش يتباهى بأنه قادر على هزيمة الجيوش العربية جميعها.
سيأتي جوليانو بكاميرته ليرصد حال المخيم بعد الاجتياح والمجزرة. يلتقي الناس، يسلّم عليهم، يصافحهم، ويسألهم على أحوالهم.. هم بخير.. باقون.. ومستمرون.. دون أن ينسوا الترحُّم الصادق على والدته آرنا. وجوليانو سيبحث عن أولاد آرنا.. ويكشف عن مصائرهم، واحداً تلو آخر.
كانوا في السابعة أو التاسعة من أعمارهم، عندما تعرّف جوليانو عليهم.. واليوم من المفترض أن يكونوا يبحرون في العشرينات من أعمارهم.. فأين هم؟..
ستصل الصور التي تناقلتها نشرات الأخبار عن العملية الاستشهادية التي نفَّذها يوسف السويطات. وسرعان ما سيدرك جوليانو أن يوسف هو أحد أولاد آرنا. فجوليانو يتذكر تماماً ذلك الفتى، منذ أن كان ابن التاسعة من العمر، والذي طالما دربه على أداء دوره في المسرحية.. يومها كانت الضحكات تعلو، فيما المشهد يدور بين يوسف وأشرف.. وجوليانو ينتبه الآن إلى أن الفتى يوسف اتصل به قبل العملية تماماً، وسأله عن أحواله.. ربما في اتصال وداع.
في تداخل الأزمنة، وبحضور الصور التي سجلتها الكاميرا قبل سنوات عدة، تحضر صورة الفتى يوسف، ذاك الحالم بأن يكون ممثلاً مسرحياً، ذات يوم، وربما لم ينتبه إلى أنه سيخوض لعبة التبادل بين المسرح والحياة، فكان عليه أن يؤدي المشهد الأخير في مدينة الخضيرة، عام 2001، وينتهي جثة على الرصيف، تتناقلها نشرات الأخبار.
"بقي سنتين من زمن الانتفاضة، وهو حاسس حاله في سجن.. فزهق وفشّ خلقه.. منظر البنت ميتة بين يديه أثَّر فيه ولم يستحمله.. أخوه مات في الدار، من دون أن يفعل شيئاً.. فقال لنفسه إذا أردت أن تقتلني، فدعني أمت كما أشاء".. يقول محمود، أحد أصدقاء يوسف في المخيم.. فمات يوسف السويطات على طريقته.. استشهادياً على رصيف في مدينة الخضيرة..
لكن زميله في المشهد المسرحي (أشرف أبو الهيجا) كانت له نهاية مختلفة. سنرى في النهاية صورة لكفن أبيض ممدَّد بين عشرات الأكفان، ولا يختلف الأمر في شيء بينها.. إلا أننا سنقرأ كتابة بخطٍّ مرتبك، وباللون الأسود لقلم نزف على القماش الأبيض للكفن، يعلمنا أن الملفوف في هذا القماش هو أشرف أبو الهيجا. الفتى ذاته الذي رأيناه، قبل قليل، يقول إنه يحاول من خلال المسرح أن يعبّر عما في نفسه.. وأنه يتمنى أن يكون ممثلاً مسرحياً مشهوراً.
"أشعر وأنا أمثّل كأني أضرب حجراً ومولوتوفاً.. وأشعر بقوة وفخر وعزّ"، يقول أشرف.. وسينتقل من دوره المسرحي إلى دوره الحياتي، ليجد نفسه يخوض في غمار المواجهة غير المتكافئة في مخيم جنين، عام 2002، وينتهي شهيداً في مقبرة جماعية.
علاء الرسام
لم يجد علاء الصباغ في نفسه ميلاً للمسرح، فاختار أن يتعلَّم الرسم.. وإذ يهدم جيش الاحتلال بيت أهله في الانتفاضة الأولى.. فإن الكاميرا ترينا علاء وهو ابن التاسعة يجلس فوق الركام، بكل الحسرة والخيبة.. وسنراه فيما بعد يرسم لوحة تمثل أنقاض البيت، وقد ارتفع فوقها العلم الفلسطيني..
سيحتاج علاء أقل من عشر سنوات حتى يصبح قائد كتائب الأقصى في الضفة الغربية.. وسيغدو المطارد رقم واحد، والمطلوب الأول للقتل أو الاعتقال. يومها، وسنرى علاء، كما أمه، يحادثان جوليانو بوضوح وبساطة وإصرار. الأم تقول إن لا شيء في الدنيا يمكنه أن يجعلها تطلب من ابنها علاء أن يسلّم نفسه لجيش الاحتلال ويقبل المذلّة، وعلاء يؤكد أن الجيش لن يتمكن من القبض عليه.. أبداً.
تلاحق الكاميرا علاء وأصدقاءه إلى تفاصيل من أعمالهم القتالية، ومواجهاتهم لجيش الاحتلال، المتوغل في زواريب مخيم جنين.. كما تدخل إلى الحجرات الصغيرة الضيقة، والبيوت السرية، التي يمضون أوقات الاستراحة فيها، وتسجّل جوانب من سهراتهم، ومزاحهم، وضحكاتهم، ومناكفاتهم لبعضهم البعض.
"عن أي خطر تتحدَّث؟.. هل تسمي هذا خطراً؟.. ماذا يقول الشبان المحاربون؟.. هل ترى هذا خطراً)، يقول جوليانو.. وهو يجيب على السؤال الذي وَجّهه أحد الصحفيين إليه عن مدى الخطر الذي تعرَّض له خلال تصوير الفيلم.
"على القبر.. يا بلاش"، يقول علاء قبل أن يمضي في اللقطة التالية إلى القبر، شهيداً مشيعاً بنحيب ولوعة الأم ذاتها، التي كانت تعرف أن ابنها سينتهي إليه، وستبقى تجلجل في مخيلة المشاهد ضحكات علاء، ورؤية انبلاج الشفتين الغليظتين عن بياض أسنانه..
زكريا.. الباقي.. الوحيد
هو زكريا الزبيدي.. الاسم الشهير الآن في الضفة الغربية. فهو قائد كتائب الأقصى فيها، والمطارد المطلوب رقم واحد، هذه الأيام. ولقد هدم جيش الاحتلال منزل أهله منذ أسابيع قليلة.. في محاولة للضغط عليه، تماماً كما حصل مع علاء من قبل.. ومع المئات من المطاردين والمطلوبين..
لم يكن زكريا في مقدمة الصورة في الفيلم، على الأقل قياساً بالنسبة إلى أشرف ويوسف وعلاء، على الرغم من أنه كان واحداً منهم. نعم زكريا الزبيدي هو أحد "أولاد آرنا".. وإذا كان أخوته قد سبقوه إلى الشهادة، أو الاستشهاد، كل بطريقته التي اختارها!.. فإن خيار زكريا الزبيدي لم يكن مختلفاً عنهم، أبداً.. فمن يتولى قيادة كتائب الأقصى يعلم أنه مرصود للموت، أو الاعتقال، طالما أن ميزان القوى على هذا القدر الهائل من الاختلال، لصالح جيش الاحتلال.. وطالما أن العالم يرتع في مستنقع الصمت الأعمى!
فيلم "أولاد آرنا"
حاز فيلم "أولاد آرنا" على الجائزة الأولى في مهرجان "عالم واحد" للأفلام الوثائقية التي تُعنى بقضايا حقوق الإنسان، المنعقد خلال شهر نيسان 2004، بدورته السادسة، في العاصمة التشيكية براغ. وحصل على جائزة وزير الثقافة التشيكي لأفضل فيلم. كما حاز على جائزة الفيلم التوثيقي في مهرجان "هوتدوكس" الكندي، وجائزة أفضل فيلم وثائقي في مهرجان "تريبكا" الثالث في نيويورك، وعلى التصنيف الرابع في مهرجان "أدوفا" في أمستردام.. ولا شك أن الفيلم سيقطف العديد من الجوائز، كما حاز على الكثير من الإعجاب لدى كل من تيسر له مشاهدته. وبطبيعة الحال، فإن الحديث عن الفيلم لا ينبغي أن يتوقّف عند الجوانب المضمونية لناحية الخطاب الذي يرسله هذا الفيلم والموقف الذي يتبناه.
يبدي جوليانو في فيلمه قدراً كبيراً من عدم الانسياق وراء المشاعر والعواطف، على الرغم من أن فيلمه مليء بها.. إذ يبدو تماماً أنه لا يريد دغدغة المشاعر، ولا استثارة العواطف، بل يريد من المشاهد القيام بعمليتي التأمل والتفكير في ما يراه. فعلى الرغم من أن "أولاد آرنا" يستشهدون واحداً تلو الآخر، وأن الفيلم يسجّل حياة "الأولاد" في طفولتهم ويفاعتهم وشبابهم، وبعد مماتهم، ويرى المشاهد كلاً منهم متحدثاً للكاميرا في حين، ثم جثة متردية أمامها في حين آخر، إلا أن المخرج جوليانو استطاع ببراعة أن يبتعد بفيلمه عن التصعيد الميلودرامي، والبكاء أو النواح، ويقود المشاهد للتأمل في هذه المصائر التراجيدية لأطفال فلسطينيين، كانت لهم أحلامهم الصغيرة، أطفال أرادوا ممارسة أدوارهم على خشبة المسرح، فأصبحوا أبطالاً على خشبة مسرح الحياة.
|
|
|
|