وقد قال عزّ شأنه قبل ذلك مخاطبا نبيه محمدًا
صلى الله عليه وسلم: وأَنِ احْكُمْ بَيْنهُم بما
أنزل اللهُ ولا تَتَّبِعْ أهْواءهُم عَمّا
جاءَك مِن الحقّ.
وقال تعالى: وأنِ احْكُمْ بَيْنهُمْ بِما
أَنْزَلَ اللهُ ولا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ واحْذَرْهُم أَنْ يَفْتِنُوكَ
عَنْ بَعْضِ
.مَا أَنْزَلَ اللهُ إليك
وقال تعالى مُخيرا نبيه محمدا صلى الله عليه
وسلم، بين الحُكم بين اليهود والإعراض عنهم
إنْ جاءُوه لذلك: فَإنْ جاءُوكَ فَاحْكُمْ
بَيْنَهُم أوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وإنْ تَعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ
.شَيْئاً وإنْ حَكَمْتَ فاحْكُمْ بَيْنَهُمْ
بِالقِسْطِ إنَّ اللهَ يُحِبُّ المُقْسِطينَ. والقسط هو: العدل
ولا عدل حقا إلاّ حُكم الله ورسوله، والحكم
بخلافه هو الجور، والظلم، والضلال، والكفر،
:والفسوق، ولهذا قال تعالى بعد ذلك
.ومَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ
فَأُولئِكَ هُمُ الكافِرون
.ومَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ
فَأُولئِكَ هُمُ الظالِمُون
.ومَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ
فَأُولئِكَ هُمُ الفاسِقون
فانظر كيف سجّل تعالى على الحاكمين بغير ما
أنزل اللهُ الكفرَ والظلمَ والفسوقَ، ومِن الممتنع
أنْ يُسمِّي اللهُ سبحانه الحاكمَ بغير ما
أنزل اللهُ كافرًا ولا يكون كافرًا، بل كافرٌ مطلقًا، إمّا كفر
عمل وإما كفر اعتقاد، وما جاء عن ابن عباس
ـ رضي الله عنهما ـ في تفسير هذه الآية من
رواية طاووس وغيره يدلُّ أنّ الحاكم بغير
ما أنزل اللهُ كافرٌ إمّا كفرُ اعتقادٍ ناقلٌ عن الملّة،
.وإمّا كفرُ عملٍ لا ينقلُ عن الملّة
:أمّا الأول: وهو كفر الإعتقاد فهو أنواع
:أحدها
.أن يجحد الحاكمُ بغير ما أنزل الله أحقيّة
حُكمِ الله ورسوله
وهو معنى ما رُوي عن ابن عباس، واختاره ابن
جرير أنّ ذلك هو جحودُ ما أنزل اللهُ من
الحُكم الشرعي، وهذا ما لا نزاع فيه بين أهل
العلم، فإنّ الأصول المتقررة المتّفق عليها
بينهم أنّ مَنْ جَحَدَ أصلاً من أصول الدين
أو فرعًا مُجمعًا عليه، أو أنكر حرفًا مما جاء به
.الرسول صلى الله عليه وسلم، قطعيًّا، فإنّه
كافرًا الكفرَ الناقل عن الملّة
:الثاني
أنْ لا يجحد الحاكم بغير ما أنزل الله
كونَ حُكم اللهِ ورسولِهِ حقًّا. لكن اعتقد أنّ حُكم غير
الرسول صلى الله عليه وسلم أحسنُ من حُكمه،
وأتمّ وأشمل... لما يحتاجه الناسُ من الحُكم
بينهم عند التنازع، إمّا مُطلقا أو بالنسبة
إلى ما استجدّ من الحوادث، التي نشأت عن تطوّر
الزمان وتغير الأحوال، وهذا أيضًا لا ريب
أنه كافرٌ، لتفضيله أحكامَ المخلوقين التي هي
.محضُ زبالةِ الأذهان، وصرْفُ حُثالة الأفكار،
على حُكم الحكيم الحميد
وحُكمُ اللهِ ورسولِه لا يختلف في ذاته باختلاف
الأزمان، وتطور الأحوال، وتجدّد الحوادث،
فإنّه ما من قضية كائنة ما كانت إلاّ وحُكمها
في كتاب الله تعالى، وسنة رسوله، صلى الله
.عليه وسلم، نصًّا أو ظاهرًا أو استنباطًا
أو غير ذلك، عَلِمَ ذلك مَن علمه، وجَهِلَه مَن جهله
وليس معنى ما ذكره العلماء من تغيّر الفتوى
بتغير الأحوال ما ظنّه مَن قلَّ نصيبُه أو عدم
من معرفة مدارك الأحكام وعِلَلها، حيث ظنّوا
أنّ معنى ذلك بحسب ما يُلائم إرادتهم
.الشهوانية البهيمية، وأغراضهم الدنيوية وتصوّراتهم
الخاطئة الوبية
ولهذا تجدُهم يحامون عليها، ويجعلون النصوص
تابعة لها منقادة إليها، مهما أمكنهم
.فيحرفون لذلك الكَلِم عن مواضعه
وحينئذٍ معنى تغيُّر الفتوى بتغير الأحوال
والأزمان مراد العلماء منه: "ما كان مُستصحبه
فيه الأصول الشرعية، والعلل المرعية، والمصالح
التي جِنْسُها مرادٌ لله تعالى ورسوله
صلى الله عليه وسلم. ومن المعلوم أنّ أرباب
القوانين الوضعية عن ذلك بمعزل، وأنهم
.لا يقولون إلاّ على ما يلائم مراداتهم، كائنة
ما كانت، والواقع أصدقُ شاهدٍ
:الثالث
أنْ لا يعتقد كونَه أحسن من حُكم الله ورسوله،
لكن اعتقد أنه مثله، فهذا كالنوعين الذين قبله،
في كونه كافرًا الكفرَ الناقل عن الملّة،
لما يقتضيه ذلك من تسوية المخلوق بالخالق
والمناقضة والمعاندة لقوله عزّ وجلّ: "لَيْسَ
كَمِثْلِهِ شَيْء". ونحوها من الآيات الكريمة،
الدالّة على تفرُّدِ الربّ بالكمال، وتنزيهه
عن ممثالة المخلوقين، في الذات والصفات والأفعال
.والحُكم بين الناس فيما يتنازعون فيه
:الرابع
أنْ لا يعتقد كون حُكم
الحاكم بغير ما أنزل الله مماثلاً لحكم الله ورسوله، فضلاً عن أنْ يعتقدَ
كونه أحسن منه، لكن
اعتقد جواز الحُكم بما يخالف حُكم الله ورسوله، فهذا كالذي قبله يصدُقُ
.عليه ما يصدق عليه،
لاعتقاده جوازَ ما علم بالنصوص الصحيحة الصريحة القاطعة تحريمه
:الخامس
وهو أعظمها وأشملها
وأظهرها معاندة للشرع، ومكابرة لأحكامه، ومشاقّة لله ورسوله،
ومضاهاة بالمحاكم الشرعية،
إعدادا وإمدادا وإرصادا وتأصيلا، وتفريعا وتشكيلا وتنويعا
.وحكما وإلزاما، ومراجع
ومستندات
ـ فكما أنّ للمحاكم الشرعية مراجعَ
مستمدّات، مرجعها كلُّها إلى كتاب الله وسنة
.رسوله صلى الله عليه وسلم
ـ فلهذه المحاكم مراجعٌ، هي: القانون
المُلفّق من شرائعَ شتى، وقوانين كثيرة، كالقانون
الفرنسي، والقانون الأمريكي، والقانون البريطاني،
وغيرها من القوانين، ومن مذاهب بعض
.البدعيين المنتسبين إلى الشريعة وغير ذلك
ـ فهذه المحاكم في كثير من أمصار الإسلام
مهيّأة مكملة، مفتوحةُ الأبواب، والناس إليها
أسرابٌ إثْر أسراب، يحكُمُ حُكّامُها بينهم
بما يخالف حُكم السُنّة والكتاب، من أحكام ذلك
القانون، وتُلزمهم به، وتُقِرُّهم عليه، وتُحتِّمُه
عليهم.. فأيُّ كُفر فوق هذا الكفر، وأيُّ
.مناقضة للشهادة بأنّ محمدًا رسولُ اللهِ
بعد هذه المناقضة
.وذِكْرُ أدلّة جميع ما قدّمنا على وجه البسْطِ
معلومةٌ معروفة، لا يحتمل ذكرها هذا الموضوع
!فيا معشر العُقلاء! ويا جماعات الأذكياء
وأولي النُها
كيف ترضون أنْ تجري عليكم أحكامُ أمثالكم،
وأفكارُ أشباهكم، أو مَن هم دونكم، مِمّن يجوز
عليهم الخطأ، بل خطأهم أكثرُ من صوابهم بكثير،
بل لا صواب في حُكمهم إلاّ ما هو مُستمدٌّ
!!من حُكم اللهِ ورسولهِ، نصًّا أو استنباطًا؟
تَدَعونهم يحكمون في أنفسكم ودمائكم وأبشاركم،
وأعراضكم وفي أهاليكم من أزواجكم
وذراريكم، وفي أموالكم وسائر حقوقكم!! ويتركون
ويرفضون أن يحكموا فيكم بحُكم الله
ورسوله، الذي لا يتطرّق إليه الخطأ، ولا يأتيه
الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من
!!حكيم حميد
..وخُضوع الناس ورضوخهم لحكم ربِّهم خضوعٌ
ورضوخٌ لِحُكم مَنْ خلقهم تعالى ليعبدوه
فكما لا يسجدُ الخلقُ إلاّ للهِ، ولا يعبدونَ
إلاّ إياه ولا يعبدون المخلوق، فكذلك يجب أن لا
يرضخوا ولا يخضعوا أو ينقادوا إلاّ لحُكم
الحكيم العليم الحميد، الرءوف الرحيم، دون حُكم
المخلوق، الظلوم الجهول، الذي أهلكته الشكوكُ
والشهواتُ والشبهات، واستولت على
.قلوبهم الغفلة والقسوة والظلمات
فيجب على العُقلاء أن يربأوا بنفوسهم عنه،
لما فيه من الإستعباد لهم، والتحكم فيهم بالأهواء
:والأغراض، والأغلاط والأخطاء، فضلاً
عن كونه كفرًا بنصِّ قوله تعالى
.ومَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ
فأُولئكَ هُمُ الكافِرونَ
:السادس
ما يحكُم به كثيرٌ
من رؤساء العشائر، والقبائل من البوادي ونحوهم، من حكايات آبائهم
وأجدادهم، وعاداتهم
التي يسمُّونها "سلومهم"، يتوارثون ذلك منهم، ويحكمون به ويحُضُّون
على التحاكم إليه عند
النزاع، بقاءاً على أحكام الجاهلية، وإعراضًا ورغبةً عن حُكم الله
.ورسوله، فلا حول ولا
قوة إلاّ بالله
:وأمّا القسم الثاني
.*من قسمي كُفر الحاكم بما انزل الله، وهو
الذي لا يُخرجُ من الملة
فقد تقدّم أنّ تفسير ابن عباس ـ رضي الله
عنهما ت لقول الله عزّ وجلّ: ومَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا
أنْزَلَ اللهُ فَاُولئكَ هُمُ الكافِرونَ.
قد شمل ذلك القسم، وذلك في قوله ـ رضي الله عنه ـ في
."الآية: "كُفر دون كفر"، وقوله أيضًا: "ليس
بالكفر الذي تذهبون إليه
وذلك أنْ تَحْمِلَهُ شهوتُه وهواهُ على الحُكم
في القضية بغير ما أنزل الله، مع اعتقاده أنّ
.حُكم الله ورسوله هو الحقّ، واعترافه على
نفسه بالخطأ ومجانبة الهدى
وهذا وإنْ لم يُخرِجْه كُفْرُه عن الملّة،
فإنه معصية عُظمى أكبرُ من الكبائر، كالزنا وشُرب
..الخمر، والسّرِقة واليمين الغموس، وغيرها
.فإنّ معصية ً سمّاها اللهُ في كتابه كفرًا،
أعظمُ من معصية لم يُسمِّها كُفرًا
نسأل الله أنْ يجمع المسلمين على التحاكم
إلى كتابه، إنقيادًا ورضاءً،
.إنّه وليُّ ذلك والقادر عليه
تمّت ولله الحمد
الصفحة السابقة
|